«الإنسولين» .. دواء معجزة استخلاصه وتصنيعه أنقذا حياة الملايين

من دون الإنسولين، لا يستطيع الجسم الاستفادة من الجلوكوز، الذي يمثل غذاءه الأساسي ومعظم الأطفال المرضى بالسكري لا يفتقدون الإنسولين تماما، في حين أن البالغين الذين يعانون من النوع الثاني غالبا ما يعانو
من دون الإنسولين، لا يستطيع الجسم الاستفادة من الجلوكوز، الذي يمثل غذاءه الأساسي ومعظم الأطفال المرضى بالسكري لا يفتقدون الإنسولين تماما، في حين أن البالغين الذين يعانون من النوع الثاني غالبا ما يعانو

كل بضعة أشهر يتم الكشف عن بعض الأدوية «المعجزة» أو غيرها التي تخرج لنا في صورة حبات أو أقراص، لكن لمرة واحدة فقط أو مرتين في غضون جيل، يظهر دواء يحدث تحولا حقيقيا، وتلك هي الأدوية المعجزة التي تبدو وكأنها تحيي الموتى.


وبينما لا يزال اكتشاف بعضها، مثل أدوية علاج الإيدز، ماثلا في الأذهان، يكاد يكون بعضها الآخر منسيا تقريبا مثل الإنسولين، الذي سعى الباحثون في جميع أنحاء العالم لفترة طويلة لاستخلاصه والحصول عليه، وأخيرا تم فصله كيمائيا في عام 1921 بواسطة فريق من الباحثين الكنديين.

ومع اكتشاف الإنسولين، عاد الأطفال الذين كانوا على شفا الموت إلى الضحك واللعب من جديد وتحدث الأطباء عن حدوث معجزة عند بعض المرضى.

وسيجد زوار معرض جديد افتتحته بداية الشهر الحالي جمعية نيويورك التاريخية، قصة صنعتها أحداث درامية، لأن معجزة الإنسولين كانت أكثر من مجرد اختبارات أفضل للدم. فالإنسولين قد وضع بالفعل اللحم على هياكل عظمية حية.

لكن المعجزة استمرت لفترة محدودة: لأن الإنسولين لم يكن علاجا، فقد كانت نسبة الوفيات في مدينة نيويورك من مرض السكري، عام 1921، الأعلى داخل الولايات المتحدة. واليوم تصنف وزارة الصحة مرض السكري على أنه واحد من أبرز 5 أسباب للوفاة بين سكان المدينة.

لكن ضحايا هذا المرضى أضحوا الآن من الكبار بعد أن كانوا من الأطفال، فإن ما فعله الإنسولين هو أنه حول مرضا قاتلا إلى مرض مزمن وطويل الأمد.

ويسلط كل من المعرض الذي تفتتحه جمعية نيويورك التاريخية، والكتاب المسمى «الاختراق» Breakthrough الذي كتبه كل من ثيادورا كوبر وآرثر أينسبرغ الذي يعتمد المعرض على محتوياته، الضوء على أسئلة معقدة تثار دائما بعد حدوث المعجزات الطبية: من الذي سيحصل على العقار أولا؟ من سيدفع الثمن؟ من الذي سيوفره للجميع؟ وبطبيعة الحال، ومن الذي سيكافئ مطوريه الذين يشعرون بأنهم يستحقون المكافأة؟

هرمون أساسي 
وفي العقود الأولى من القرن العشرين، بذلت نحو 6 مجموعات بحثية مختلفة جهودا حثيثة للتوصل إلى الإنسولين، وهو هرمون ينتجه البنكرياس، ولكن من الصعب فصله عن الإنزيمات الهضمية التي تنتج معه من نفس المكان.

ومن دون الإنسولين، لا يستطيع الجسم الاستفادة من الغلوكوز، الذي يمثل غذاءه الأساسي. ومعظم الأطفال الذين يعانون من مرض السكري لا يفتقدون الإنسولين تماما، في حين أن البالغين الذين يعانون من مرض السكري من النوع الثاني غالبا ما يعانون من السمنة التي تقاوم عمل الهرمون.

وفي كلتا الحالتين، فإن السكر والنشا الموجودين في غذاء مرضى السكري يتحولان إلى سم يؤدي إلى انسداد مجرى الدم بغلوكوز غير صالح للاستعمال، ويتم التخلص من الغلوكوز في البول وتحرم خلايا الجسم منه على الرغم من أنه كان موجودا بكثرة.

والمرضى الذين يعانون من نقص الإنسولين يشعرون بالعطش والجوع، لكن كلما أكلوا يتخلص الجسم بسرعة من الأكل.

وقبل ظهور الإنسولين، كان الأطباء يدركون هذا الأمر لذلك كانوا يصفون علاجات مؤقتة تتضمن إلزام مرضى السكري بنظام غذائي يعتمد على السلطة والبيض ويتجنب السكر والنشا، ويسمح بالحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة لبقاء المرضى على قيد الحياة.

ولأن المرضى كانوا نحيلي الأجساد بالفعل، فقد أضحوا هياكل عظمية، لكن اختفى الغلوكوز الزائد من الدم والبول وحافظوا على بقائهم لفترة أطول كثيرا من معاصريهم الذين لم يلتزموا بنظام غذائي.

ويتذكر الدكتور إليوت جوسلين، الذي كانت عيادته في بوسطن ولا تزال مركزا معروفا لعلاج مرضى السكري، كيف أن إحدى مريضات السكري قبل اكتشاف الإنسولين كانت تتبع نظاما غذائيا كان وزنها لا يزيد على «وزن عظام جسمها وروحها البشرية».

وأسس خبير كبير آخر بالعلاج الغذائي في نيويورك هو الدكتور فريدريك ألن، الذي طوى ذكراه النسيان، مستشفى داخليا لمرضى السكري، في شارع 51 في مانهاتن، ثم بعد ذلك في ولاية نيوجيرسي في المناطق الريفية.

قصة مرضى السكري 
ويذكر الدكتور ألن أن الفقيه القانوني الأميركي البارز والقاضي بالمحكمة العليا تشارلز إيفانز هيوز قد أصيب بالصدمة عندما تم تشخيص مرض ابنته إليزابيث بالسكري عام 1919 حيث كانت في الحادية عشرة من عمرها.

وكانت إليزابيث هيوز مرحة وجميلة وطولها 5 أقدام وشعرها بنيا مسترسلا وتحب الطيور. ومع خضوعها للنظام الغذائي الذي وضعه لها الدكتور ألن انخفض وزنها إلى 65 رطلا (الرطل يساوي 453 غراما تقريبا)، ثم 52 رطلا، وبعد إصابتها بالإسهال الذي كاد يقتلها في ربيع عام 1922، وصل وزنها إلى 45 رطلا، لكنها ظلت لأكثر من ثلاث سنوات، فترة أطول كثيرا مما كان متوقعا. ثم سمعت والدتها بالخبر: أخيرا تم استخلاص الإنسولين في كندا.

استخلاص الإنسولين
وكان البطل غير المتوقع لهذا الإنجاز هو فريدريك بانتينغ، وهو شاب من مدينة أونتاريو تخرج في كلية الطب من دون تفوق، وتعرض لإصابة في الحرب العالمية الأولى، مما ألقى به في مختبر جامعة تورنتو، وكانت فكرة الحصول على هذه المادة المحيرة تسيطر على جل تفكيره.

وعلى مدار فصل الصيف الحار لعام 1921، قام الدكتور بانتينغ ومساعده تشارلز بيست، بتجارب على الكلاب المصابة بمرض السكري، ولم يحققا سوى نجاح محدود، حتى وصلا إلى الكلب رقم 92 الذي قفز من على الطاولة بعد حقنه وبدأ في هز ذيله.

وفي الوقت نفسه، كان المشرف على بانتينغ ومدير المختبر الدكتور جون جيه. ماكلويد يقضي إجازة الصيف في اسكوتلندا.

ولم يسامح بانتينغ مشرفه ماكلويد الذي عاد في الخريف منتعشا ليقوم بالاستيلاء على إنجازهما. واستمرت عداوة بانتينغ الشديدة لماكلويد لسنوات، حتى بعد فترة طويلة من حفل تسلم جائزة نوبل في 1923 التي رفض بانتينغ حضوره وتقاسم جائزة نوبل في الطب مع ماكلويد، وقال إنه يرفض حتى أن يشاركه المنصة.

وفي هذا الحين، كانت الأمهات من جميع أنحاء العالم يكتبن رسائل شديدة التأثير إلى بانتينغ: «عزيزي الدكتور بانتينغ: أنا مشتاقة جدا لمعرفة المزيد عن اكتشافك الخاص»، كتبت إحداهن قبل أن تصف حالة ابنتها: «إن وزنها قد قل ونحل جسدها بصورة يرثى لها».

وكانت هذه والدة إليزابيث هيوز، أنطوانيت. وكان تشارلز إيفانز هيوز في ذلك الوقت قد ترك المحكمة العليا بصورة مؤقتة ليشغل منصب وزير الخارجية في إدارة الرئيس وارن جي. هاردينغ.

وأجاب الدكتور بانتينغ قائلا، لا، للأسف لا يوجد إنسولين متاح، لأنه، في الواقع، كان الفريق يواجه صعوبة في توفير ما يكفي من الإنسولين لعدد قليل من المرضى.

ثم وبعد بضعة أسابيع، غير بانتينغ رأيه، فقد تدخلت قوى أعلى، أو ربما القاضي هيوز نفسه - وهو رجل صارم وحكيم، كان يطلق عليه ثيودور روزفلت لقب «الملتحي القاسي» – للسيطرة على الأمر. وفي كل الأحوال، سافرت إليزابيث بأقصى سرعة إلى تورنتو للحصول على حقن الإنسولين.

وكانت هذه نهاية رحلتها، ولكنها كانت البداية للكثير من الأطفال الذين ليس لهم علاقة بها والذين اضطروا إلى الانتظار لحين انتهاء المعركة التي دارت بين الكنديين حول كيفية توزيع الكميات الضئيلة التي لديهم من هذه المادة المنقذة للحياة بصورة عادلة.

وقد زاد التوتر عندما هاجم بانتينغ أحد زملائه بشدة قبل أن ينتهي الأمر بفوز شركة «إيلي جي ليللي آند كومبني» لصناعة الأدوية التي مقرها أنديانابوليس بحق إنتاج كميات كبيرة من الإنسولين. وكانت هذه أول شراكة تتم بالتفاوض بين الأوساط الأكاديمية وأطباء فرديين وشركة لتصنيع المستحضرات الطبية.

تصنيع الإنسولين
وعندما أثبتت أول تركيبة من أدوية علاج مرض الإيدز قدرتها على إنقاذ الأرواح بنفس الطريقة المعجزة، كان الدكتور كينت سيبكوفيتز، خبير الأمراض المعدية في مركز «ميموريل سلون كيترينغ لعلاج السرطان» بنيويورك، يقرأ في الأدب القديم ليتعرف على طريقة اكتشاف الإنسولين ووجد الكثير من أوجه الشبه بين الظروف التي اكتشفا فيها علاجا السكري والإيدز.

وقال سيبكوفيتز: «بصورة ما، كان الاكتشاف هو الجزء الأسهل. ثم بدأ العمل الحقيقي». وأضاف أنه في حالتي كل من الإنسولين وأدوية الإيدز فإن التحدي الكبير كان «في الحصول عليه ونقله من هنا إلى هناك».

وكانت النفقات والخدمات اللوجيستية في تصنيع الإنسولين تمثل التحدي الأكبر. ولكن سرعان ما بدأت القطارات المحملة ببنكرياس الماشية والخنازير المجمدة والقادمة من مسالخ شيكاغو العملاقة في الوصول إلى مصنع شركة «ليللي» وبحلول عام 1932 انخفض سعر الدواء بنسبة 90 في المائة.

وفي الوقت نفسه، كانت فكرة السماح للمرضى باختبارات البول الخاصة بهم لقياس جرعات الإنسولين الخاصة بهم غريبة بالنسبة لمعظم الأطباء. وقال جان أشتون، أحد المنظمين للمعرض، إن مرض السكري هو المرض الأول الذي اضطر الأطباء فيه للتخلي عن بعض مهماتهم الطبية للمرضى.

ومع توافر الإنسولين، فقد منح مرضى السكري فجأة الحق والمسؤولية في الحفاظ على صحتهم.

وأصبح بعض الأطفال الذين كانوا متلقين للإنسولين في وقت مبكر من أعمارهم، من نشطاء مرض السكري الذين يتحدثون عن حقوق المرضى.

ولكن إليزابيث هيوز سارت في الاتجاه الآخر، بعيدا عن العناوين الرئيسية التي جعلتها لفترة وجيزة أشهر طفلة مريضة بالسكري في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنها تلقت ما يقدر بـ42000 جرعة إنسولين قبل وفاتها عام 1981 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين.

فقد قامت بتدمير معظم المواد التي توثق مرضها، وأزالت جميع الإشارات إلى مرض السكري من أوراق والدها، وفي بعض الأحيان نفت حتى أنها كانت مصابة بالسكري وهي طفلة.

والكاتبة ثيادورا كوبر، وآرثر أينسبرغ، وهو المدير التنفيذي في صحيفة «وول ستريت» والمؤرخ المغمور، لم يندما على جعلها محور حديثهما عن مرض السكري وقاما باختلاق حوارات معها حتى أنهما كانا يتخيلان بعض المشاهد المحورية غير الموثقة تاريخيا في حياتها.

ولكن إليزابيث لا تمثل سوى جزء صغير من المعرض، ويظن العارض أن هذا ربما يكون هو بالضبط ما كانت تفضله. وتظهر الرسائل التي كانت تكتبها إلى أمها خلال فترة إقامتها في تورنتو التي استمرت لستة أشهر، حيث استعادت قدرا كبيرا من صحتها وقوتها، كيف أنها كانت ترغب بشدة في ألا تظل مريضة طوال حياتها.

وكان يوما عظيما عندما استطاعت حقن نفسها بالإنسولين لأول مرة، حيث كتبت لأمها تقول: «يمكنني القيام بذلك بصورة صحيحة تماما. الآن أشعر بأني مستقلة تماما».