خبراء الطب النفسي: التعرض لشدائد الحياة قد يحسن الصحة النفسية

خبراء الطب النفسي .. «الضربة اللي ما تموتك .. تقويك»
خبراء الطب النفسي .. «الضربة اللي ما تموتك .. تقويك»

العنوان الذي اختاره الباحثون الطبيون من جامعة بافلو وجامعة كاليفورنيا لدراستهم النفسية الجديدة كان «الشيء الذي لا يقتلك: التحطيم ومرونة استعادة القوة لدى تراكم الإصابة بشدائد الحياة»، وهو ما أشار الباحثون إلى أنه مستمد من المثل الشائع الذي يقول: «الضربة اللي ما تموتك .. تقوّيك».


وعلى الرغم من أن هناك من ينسب مصدر هذا المثل إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي كان قد ذكره في كتابه الشهير «شفق الأوثان» (Twilight of Idols)، فإنه مثل موجود في ثقافات كثير من شعوب العالم الغربية والشرقية بعبارات مختلفة في الكلمات ومتفقة في المعنى.

ومن الناحية العلمية، قال الباحثون إنه لا يُوجد في مدونات البحوث النفسية ما يدعم صحة هذا المثل. ولذا حاولوا في هذه الدراسة الحديثة معرفة حقيقة تأثيرات تلك الأحداث العدوانية التي يتعرض لها الشخص خلال حياته، وتم نشرها في عدد 11 أكتوبر (تشرين الأول) من مجلة «جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشيال سايكولجي» (Journal of Personality and Social Psychology) المعنية بالبحوث المتعلقة بالشخصية وعلم النفس الاجتماعي، والصادرة عن الرابطة الأميركية لعلم النفس APA.

وقال الدكتور مارك سيري، الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة بافلو والباحث الرئيسي في الدراسة إن «المعلومات السابقة تشير إلى أن التعرض لأحداث حياتية ذات طبيعة معادية ومُحطّمة، عادة ما يثير لدى الكثيرين توقع حصول آثار ذات تداعيات سلبية على الصحة النفسية والشعور بالعافية لدى الشخص المتعرض لها. ومع هذا، فإن ثمة ملاحظة أن معايشة تلك النوعية من الأحداث قد تسرّع في التكيف، ومرونة استعادة القوة، ما ينتج عنه إيجابيات في الصحة النفسية والشعور العام بالعافية لدى الكثيرين».

وقام الباحثون بإجراء ما وصفوه بدراسة قومية طويلة الأمد في سبيل البحث عن حقيقة علاقة التفاعل بين التعرض للشدائد الحياتية وتحسن الصحة النفسية. وفيها تتبع الباحثون لمدة ثلاث سنوات، الحالة النفسية لنحو 2400 شخص، منهم من ذكر أنه تعرض لتلك النوعية من الأحداث الحياتية السيئة، ومنهم من لم يتعرض لها.

وقال الدكتور سيري: «قمنا باختبار معادلة العلاقة بين الأحداث السيئة وعدد من المتغيرات طويلة الأمد لمؤشرات الصحة العقلية والشعور العام بالعافية، شملت الشعور العام بالحزن والأسى، واختلال الأداء الوظيفي، وأعراض ما بعد التعرض للصدمة، والشعور العام بالرضا في الحياة».

 

وأضاف أن «نتائجنا أعطت حقيقة وجود معادلة ذات شكل حدوة الفرس، أو شكل حرف (يو) باللغة الإنجليزية (U–shape)، وأثبتت شكلا مختلفا ومعقدا لما قد يبدو بسيطا في العلاقة بين الأحداث اليومية السيئة ونتائجها»، بمعنى أن التدهور يتبعه ارتفاع.
ئ
ولاحظ الباحثون في نتائج الدراسة أن الأشخاص الذين تعرضوا لبعض من نوبات الأحداث الحياتية الكبيرة، ذات الصفة السيئة والمخيبة للأمل والمتضمنة لعدوانية الغير، كانوا لاحقا أكثر شعورا بارتفاع مستوى صحتهم النفسية العامة وأكثر شعورا بالعافية، على المديين القصير والبعيد.

 

وذلك بالمقارنة مع أولئك الأشخاص الذين لم يتعرضوا لتلك النوعية من الأحداث والظروف المُحطّمة.

ومع ملاحظة أن الحياة اليومية تحمل في جعبتها كثرة التعرض لأنواع شتى من الصدمات الاجتماعية أو المالية أو الوظيفية، ومع الاتفاق على أن القوة الشخصية هي إحدى السمات الإيجابية في الفرد، ومع إدراك أن المرونة في «سرعة» استعادة القوة إحدى المميزات التي يتصف البعض بها دون آخرين، يبقى تساؤل يفرضه ما تطرحه نتائج الدراسة وهو: «من أين تأتي القوة للشخص كي يستعيد وبسرعة عافيته النفسية وشعوره بذلك؟».

وهذا جانب يحتاج إلى بحث علمي لأن الكثيرين، وفي مجتمعات شتى، يُصابون بلا مبرر بالإحباط واليأس بعد التعرض للصدمات، وخاصة غير المتوقعة منها. وسبب القول «بلا مبرر» هو أن الإنسان الطبيعي من المفترض ألا تتأثر نفسيته وأن يمتلك من مخزون المرونة ما يكفي لحفظ واستعادة قوة وصحة قدراته النفسية.

وعادة ما يهتم المشتغلون بالفلسفة، في جانبي فلسفة الجمال وفلسفة الأخلاق، بالبحث حول مثل هذه الأمور. وعلى سبيل المثال، كان الفيلسوف نيتشه قد أجاب عن السؤال السابق بالقول إن مصدر هذه المرونة هو التجارب التي سبق أن مر بها الشخص. إلا أن الباحثين في علم النفس يبدون اهتماما لدراسة الأمر، ولذا عقب الدكتور سيري على نتائج دراسته الحديثة بالقول: «ويبقى لدينا الكثير من الجوانب التي يجب البحث فيها مستقبلا، لأننا بحاجة للمعرفة بشكل أوضح حول كيفية نشوء هذه المرونة في التكيف، ومن أين تأتي القوة لتحقيقها لدى الشخص».

وقد لا تختلف الإجابة العلمية كثيرا عن مقولة الفيلسوف نيتشه، لأن الباحثين لاحظوا فرقا بين سرعة استعادة العافية النفسية بين من تكرر تعرضهم لانتكاسات صدمات خيبة الأمل الحياتية، وبين بطء ذلك لدى أولئك الذين لم يتعرضوا لها ولم تنشأ لديهم بالتالي خبرات التعامل مع تبعاتها.