«العصيدة» .. أكلة الفقراء والأغنياء في جنوب السعودية

«العصيدة».. أكلة شعبية تقاوم برد الشتاء وشهرتها أجبرت المطاعم على إتقانها
«العصيدة».. أكلة شعبية تقاوم برد الشتاء وشهرتها أجبرت المطاعم على إتقانها

«يا ليت عندي عصيدة وأربع صواني مرق .. وآكل منها حتى يسيل العرق».. هذه الأهزوجة كان يرددها الكثير من أبناء منطقة الجنوب في السعودية بشكل عام، خصوصا في فصلي الربيع والشتاء إذ تكون درجات الحرارة في تلك المناطق منخفضة جدا وشديدة البرودة، ولما للعصيدة من قيمة غذائية من شأنها رفع درجة حرارة الجسم إلى حد كبير.


ولعل الأمر الذي قد لا يعرفه الكثير عن هذه الأكلة أنها تعد الوجبة المفضلة لدى الجنوبيين، إذ تعتبر رفيقة لمائدة الأغنياء والفقراء على حد سواء، بل إن هناك من يرى أنها كانت في السابق قبل أكثر من 20 سنة، إحدى الوسائل التي تمنح فتيات المنطقة الضوء الأخضر للدخول إلى عش الزوجية وسرعة الاقتران بشريك العمر، في حال أتقنت الفتاة طريقة تحضير «العصيدة».

يقول العم أحمد بن علي (85 عاما) من سكان منطقة الباحة إن أي رجل في الماضي كان يرغب في الزواج ويضع عينه على إحدى الفتيات تكون أبرز الأسئلة عنها إجادتها لـ«العصيدة» والأكلات الشعبية الأخرى، وكذلك عن مدى قدرتها على إدارة المنزل بشكل جيد يقودها إلى تحمل المسؤولية، ويشير أيضا إلى أن «العصيدة» تعد من الأكلات التي لا يمكن الاستغناء عنها في جميع فصول السنة، «لكنها في أوقات البرد تعد من الوجبات اليومية لكي تساعد على رفع درجة حرارة الجسم ومقاومة البرد القارس».

وعلى الرغم من أن محتويات «العصيدة» سهلة جدا ولا تتجاوز ثلاثة أشياء هي «الدقيق، والملح، والماء» وأداة واحدة فقط هي «المسوط» كما يطلق عليه، وهو عود من أشجار الزيتون يتم قطعه وتركه حتى يكون يابسا، فإن طريقة تحضير «العصيدة» تعد صعبة ودقيقة جدا، وتحتاج إلى المتابعة بشكل جيد لتتم عملية إتقانها بالشكل المناسب، حيث إن المرأة تبدأ بوضع قرابة لتر من الماء في القدر المخصصة على نار هادئة وتضع الدقيق في القدر بكميات متتالية أثناء تحريك «المسوط» أو «العجان الكهربائي» وتستمر عملية إضافة الدقيق من 30 ثانية إلى دقيقتين أو ثلاث، بحيث تكون كمية الماء والدقيق متوازنة ولا تؤثر إحداهما على الأخرى، وتقوم المرأة بتحريك «المسوط» قرابة 10 دقائق أو أكثر قليلا على أن تضيف القليل من الزيت أو «المرق»، أي الماء المطبوخ مع اللحم، وذلك بين الحين والآخر لكي تتمكن «العصيدة» من التماسك بشكل جيد. ويتم في العادة تقديم «العصيدة» وبجانبها إناء مليء بـ «المرق»، وأحيانا يمكن تقديم اللبن أو الحليب معها، ويقوم البعض بإضافة بعض البهارات إلى المرق لتعطي نكهة ممتازة، وهناك أيضا من يضع قطعا صغيرة من البصل.

ومن اللافت في الأمر أن «العصيدة» باتت تحضر في الكثير من المناطق السعودية، إذ نقلها أبناء المنطقة الجنوبية إلى العديد من المدن والمحافظات التي يقطنونها بسبب أعمالهم، حتى إن ذلك أغرى الكثير من المطاعم بتحضيرها وجعلها من الوجبات الرئيسية لجذب الزبائن، خصوصا أن معظم أبناء مناطق جنوب السعودية الذين يسكنون مناطق ومدنا أخرى ما زالوا عزابا والبعض الآخر لم تتعلم نساؤهم كيفية تحضير «العصيدة» وإتقانها، الأمر الذي يجبر هؤلاء الشباب على اللجوء إلى تلك المطابخ والمطاعم التي تتقن هذه الأكلة الجنوبية.

ومن الملاحظ أيضا أن الكثير من الشباب وعلى الرغم من انسياق بعضهم خلف الوجبات السريعة فإنهم يحنون للماضي ويقبلون على «العصيدة» بشكل رفع من شعبيتها وجعل بعض التجار يتفننون في صناعة «القدور الكهربائية» التي تريح تلك المطاعم والأسر أيضا في تحضيرها بشكل سهل، إذ إنها في السابق تحتاج إلى مجهود عضلي كبير وذلك أثناء عملية تحريك «المسوط» داخل القدر ليتماسك الدقيق والماء مع بعضه بشكل جيد، غير أنه في الوقت الحاضر أصبحت الكثير من الأسر تقوم بشراء الأدوات الكهربائية لإعداد «العصيدة» مثل القدر التي تحتوي كذلك على عجان كهربائي.

جدير بالذكر أن «العصيدة» يمكن تحضيرها بجميع أنواع الدقيق كالقمح والشعير وغيرها من الحبوب الأخرى، ويفضلها الكثير عندما تكون من القمح المزروع في المنطقة الجنوبية الذي يسقى عن طريق الأمطار التي تهطل على المرتفعات الجنوبية خلال فصول السنة، إذ تحرص الكثير من الأسر التي تعيش خارج منطقة الباحة أو منطقة عسير على إحضار أنواع الدقيق المختلفة من مناطقهم الأصلية والتزود بها بين فترة وأخرى لضمان إجادة الأكلات والثقة في محتوياتها.