إنجاب أطفال حسب الطلب .. حقيقة أم خيال؟

إذا كانت إجابتك بنعم أو بلا، فيجب أن تعرف أن بعض مما ذكرناه ليس بخيال علمي بعيد المنال؛ بل إن ذلك أصبح حقيقة واقعة يمكن تطبيقه في الوقت الحالي، وإن كان بعض مما ذكرناه من خصائص يمكن اختيارها في الطفل القادم ليس واقعيا في الوقت الحالي، فإن كثيرا من الأطباء المتخصصين يرون أن ذلك سيحدث لا محالة في غضون الأشهر القليلة القادمة وليس خلال السنين القادمة فحسب.
نعم، لقد أتاح العلم في الآونة الأخيرة من خلال تقنيات حديثة فرصة الكشف على الجنين قبل أن ينغمس في جدار الرحم، إنها تقنية تتقدم بخطى واسعة؛ ولكن هل تأخذنا هذه التقنيات السريعة إلى عالم جديد لا نعرفه: هل هو يؤدي بنا إلى الشر أم هو خير لأجلنا؟
تشخيص الجنين 
تعال واقرأ معي هذه القصة .. إنها لأب وأم دخلا على الطبيب بتقرير عن حالة ابنهما الذي يعاني من حالة تخلف عقلي مع قصر قامة وخشونة في جميع المفاصل مع تأثر حاد في قوة السمع والكلام، إنه «مرض هيرلر» وهو مرض وراثي يؤدي إلى خلل رئيسي في أحد إنزيمات الجسم، ويمكن تعويضه بحقنة تؤخذ أسبوعيا.
وتتكلف الواحدة من هذه الحقن 20 ألف دولار أميركي، من يستطيع تدبير هذا المبلغ أسبوعيا ولأي فترة زمنية؟! ويريد الأبوان تجنب هذا المرض في الطفل القادم، هل هذا ممكن؟ ولكن لديهم مشكلة، أن طوال السنين الماضية كان الأطباء يقولون إنه لا يمكن معرفة المرض قبل حدوث الحمل؛ ولكن يمكن التشخيص والطفل داخل الرحم، ومن ثم إذا كان الطفل مصابا فعندئذ يمكن إجهاضه وهو ما لا يريدون فعله من حيث مبدأ الإجهاض نفسه.
ما رأيك إذا كان من الممكن تشخيص الجنين قبل أن يدخل الرحم بنسبة 100 في المائة؟ وقد يظن البعض أنها قصة لحالة نادرة، فما بالك بحالات الإجهاض المتكرر أو تكرار فشل الحقن المجهري أو حالات الطفل المنغولي، إنها حالات كثيرة وكثيرة أكثر مما تتصور. خصائص الجينات ما هذه التكنولوجيا السحرية التي يمكنك من خلالها معرفة خصائص هذا الشخص القادم، وقبل أن ينغمس الجنين ويستقر داخل الرحم؟
تتلخص هذه التقنية في الكشف على المادة الوراثية المسؤولة عن أي من خصائص الإنسان أي الجينات، الوحدات الأساسية للوراثة في الكائنات الحية. وتتكون هذه الجينات من أحماض أمينية ترتبط ببعضها بترتيب معين وتتحكم في إنتاج بروتينات معينة هي المسؤولة عن أي من الخصائص والوظائف التي تقوم بها تلك الخلايا.
وتوجد هذه الجينات كزوجين اثنين، محمولة على الكروموسومات التي يوجد منها 46 كروموسوما في نواة كل خلية من خلايا جسم الإنسان، وتوجد تلك الكروموسومات أيضا بصورة مزدوجة كالجينات، بحيث يمكن ترقيم الكروموسومات من الرقم 1 إلى 23 حسب طول الكروموسوم، بالإضافة إلى الكروموسوم «إكس» و«واي» وهما المسؤولان عن نوع الخلية، ذكر أم أنثى. وترث خلايا الإنسان 23 كروموسوما من الأم عن طريق البويضة، كذلك 23 كروموسوما من الأب عن طريق الحيوان المنوي.
وتتحكم هذه الجينات في كل خصائص الإنسان سواء كانت في الشكل أو الوظيفة أو حتى السلوك؛ بل إنها تحدد من احتمالية حدوث الأمراض، فمثلا فان ارتفاع نسب الكولسترول في الدم تحددها هذه الجينات. أما الخلل الذي يمكن أن يحدث إما أن يكون في عدد هذه الكروموسومات مثل ما يحدث في الطفل المصاب بمتلازمة داون (المنغولي) الذي يكون فيه عدد الكروموسوم 21 ثلاثة بدلا من أن يكون زوجين اثنين، أما الخلل الثاني يكون في تكوين الجين نفسه مما يؤثر على الكثير من الخصائص التي يتسم بها أي شخص. 
وتأتي اختلافات أعداد الكروموسومات عادة أثناء انقسامات البويضات، وعندها تحتوي البويضات الجاهزة على كروموسوم أكثر أو أقل من عدد الكروموسومات الصحيح وهو 23، كما يمكن أن يحدث خلل مماثل أثناء تكوين الحيوان المنوي. أما عن التغيير الذي يمكن أن يكون بتركيبة الجين فيمكن أن يحدث إما موروثا من الأب أو من الأم أو أن يحدث لأول مرة أثناء تكوين الجنين لأسباب متعددة.
خلايا جنينية 
ولكن متى يستطيع الأطباء هذا الكشف المثير للمادة الوراثية التي تحدد كل شيء يتعلق بصفات الإنسان؟ يتم ذلك من خلال إجراء الحقن المجهري، لقد استطاع العلم باستخدام الحقن المجهري علاج معظم حالات تأخر الحمل سواء كان السبب في الزوج أو الزوجة، ويتلخص الأمر في الحصول على بويضات الزوجة بعد تنشيط وتحفيز المبيض لنمو عدد معقول من البويضات، ومن ثم استخراجها خارج الجسم وبعدها تلقيحها بالحيوانات المنوية الخاصة بالزوج، ونتيجة لذلك يتكون بعد فترة من 14 إلى 18 ساعة أول خلية من خلايا المولود القادم ثم تنقسم هذه الخلية سريعا إلى 4 خلايا في اليوم الثاني، ثم إلى 8 خلايا في اليوم الثالث، ثم بسرعة أكبر حتى تصل إلى نحو 250 خلية في اليوم الخامس من إخصاب البويضة.
وفي هذه المرحلة من عمر الجنين تنقسم تلك الخلايا إلى قسمين: القسم الأول، الذي يكون الجنين نفسه وتكون في المنطقة الوسطى من الجنين والقسم الثاني، الذي يكون خلايا المشيمة التي تكون الجزء الخارجي من الجنين، وعند تلك المرحلة وجد العلماء فرصة ذهبية للكشف عن المادة الوراثية لخلية الجنين قبل إرجاعه إلى الرحم.
نعم إنها فرصة ذهبية لأنه من الممكن أخذ عينة من تلك الخلايا الخارجية لذلك الجنين ودراستها من حيث المادة الوراثية دون أي تأثير على نمو الجنين وحيويته في ما بعد. والجدير بالذكر أنه في المراحل الأولى من هذا التطور كان يتم أخذ خليتين من خلايا الجنين في مرحلة اليوم الثالث من إخصاب البويضة، حيث توجد 8 خلايا؛ ولكنه وجد بعد ذلك أن أخذ هذه العينة يؤثر سلبا على حيوية الجنين واستمراره، وخصوصا انغماسه بجدار الرحم، وأيضا في دقة التشخيص؛ ولكن في الوقت الحالي يؤخذ من الخلايا الخارجية بعيدا عن الجنين نفسه.
لقد كان الهدف من هذا التطور العلمي الهائل هو مساعدة الأطباء المتخصصين في حل مشكلات حالات تكرار فشل الحقن المجهري الذي يشكل إحباطا للحالات التي تستخدمه للوصول إلى الحمل. فمن المعروف أن الكثير من هذه الحالات تكمن المشكلة في التكوين الوراثي للجنين الذي يمنع أن ينغمس الجنين بجدار الرحم بعد إرجاعه لتجويف الرحم، وعلى الرغم من أنها مشكلة تمنع الحمل فإنها تمنع الحمل بجنين سيكون مشوها إذا ما استمر.
ولكن بهذه التقنيات العالية أصبح من الممكن اختيار الجنين السليم الذي يحتوي على المادة الوراثية السليمة،ص وبالتالي ينغمس الجنين بجدار الرحم ويحدث الحمل، بل ويستمر حتى الولادة، ولقد استطاعت هذه التقنية أيضا في علاج حالات الإجهاض المتكرر لأنه في الكثير من هذه الحالات يكون السبب هو العيوب الوراثية بالجنين.
لقد استطعنا بالفعل في مساعدة الكثيرين من حالات تكرار فشل الحقن المجهري وأطفال الأنابيب باستخدام هذه التقنيات المتقدمة وتمكننا من تحويل إحساس الفشل الدائم واليأس المستمر إلى حياة تملأها السعادة بوجود الذرية.
لقد واكب التطور العلمي الكبير في علاج تأخر الحمل من خلال اكتشاف الحقن المجهري تطورا علميا كبيرا آخر في مجال الكشف عن جزيئات المادة الوراثية سواء من حيث مبادئه العلمية، وكذلك بالنسبة لأجهزة الكشف حتى الانتهاء من اكتشاف كل الجينات الموجودة على الكروموسومات الموجودة بداخل نواة الخلايا، إن هذا الكشف وحده كلف الخزانة الأميركية أكثر من 5 مليارات من الدولارات؛ ولكن المهم أن اليوم بعد الآخر يأتي لنا باكتشاف أسرار جديدة عن ارتباط جين أو آخر بصفة من صفات الإنسان أو بوظيفة محددة لأي من أعضاء الإنسان أو بمرض معين إذا حدث تغيير محدد في تركيبة أحد تلك الجينات.
فلقد تم اكتشاف ارتباط الكثير من الأمراض بجين محدد على الكروموسوم لكل من هذه الأمراض، فمثلا هناك ارتباط محدد بين جين يقع على الكروموسوم رقم 17 بحدوث سرطان الثدي، وارتباط جين آخر بحدوث مرض ترهل العضلات وجين آخر بسرطان القولون.
يعتقد الأطباء المتخصصون أن المرحلة الحالية تتيح للإنسان أن يختار الجنين الذي لا يحتوي على هذه الجينات التي ترتبط بصفات معيبة محددة من بين الأجنة الناتجة من استخدام الحقن المجهري، بحيث يتم أخذ عينة من الخلايا الخارجية لجنين اليوم الخامس من الإخصاب والكشف عن عدد الكروموسومات، وكذلك الكشف على جين معين بمشكلة يتوقع حدوثها بالجنين نتيجة لوجودها عند الأقارب أو لمشكلات في حمل سابق أو خلافه من أسباب التوقع، وعندها سيتم إرجاع الجنين السليم إلى الرحم مرة أخرى ومن ثم ولادة طفل معافى من هذه الصفة أو المرض.
ويعتقد هؤلاء الأطباء أن المرحلة القادمة لن تتوقف عند اختيار الجنين بل والقدرة على تغيير الجين المعيب أو إصلاحه، وسوف يكون هذا طفرة كبرى في قدرة الإنسان على اختيار الصفات الممتازة وتركيزها في ذريته؛ ولكن يترتب على ذلك حقبة جديدة من الزمن بحيث يكون بعض أفراد المجتمع متميزين لدرجة كبيرة لا شك أن في وجودهم خطر عليه من درجة تميزهم، وهذا يطرح سؤالا محددا: هل لأن الإنسان يستطيع أن يفعل شيئا فيجب عليه أن يفعله؟
لقد بدأ بالفعل أحد مراكز الخصوبة في كاليفورنيا بتقديم خدمة تحديد صفات المولود القادم من حيث لون العين ودرجة لون الجلد، حيث أثيرت زوبعة كبيرة في الأوساط العلمية بالولايات المتحدة من حيث إن هذا ليس في مصلحة المجتمع ككل، وأثار البعض التخوف الكامل من استخدام هذه التقنيات الحديثة.
والرأي الذي ينتهجه معظم الأطباء أن العلم أتاح للإنسان القدرة على الحركة السريعة في التنقل، فبعد أن كان يستخدم الحيوانات في التنقل أتاح له العلم التنقل باستخدام الآلة، مثل السيارة أو الطائرة، فأفاده هذا التطور في عدة مجالات؛ ولكن في الوقت نفسه نتج عنه حوادث مثل حوادث السيارات والطائرات التي أودت في الوقت نفسه بحياته.
ولا يعني ذلك عدم استخدام هذه التكنولوجيا بل بتنظيمها ورعايتها حتى لا تستخدم في ضرره. ولا يعني ذلك تحديدها بحيث يعيق تقدمها وتطورها.