أسبوع «الهوت كوتير» في باريس .. عالم خاص يتجاهل العادي

النتيجة التي يمكن لأي أحد ان يخرج بها من موسم الـ«هوت كوتير» لخريف وشتاء 2008 ـ 2009 الذي عشنا فعالياته في بداية الشهر الحالي، انها تعيش عصرها، بالرغم من كل ما يقال عن الأزمة الاقتصادية العالمية، وغلاء اسعار المنتجات الاستهلاكية وتأثيرها على ذوي الدخل المحدود. وربما هنا يكمن نعيم «الهوت كوتير»، فهي لم تهتم يوما بالإنسان العادي ولا بمخاطبته، وهذا ما جعلها بمنأى عن الأزمة الحالية.


ونظرة فضولية للمقاعد الأمامية في أي عرض من عروضها الأخيرة، تؤكد أن العادي في واد وغير العادي في واد آخر، وأن هناك وجوها جديدة بدأت تحتل هذه المقاعد أغلبها من اسواق جديدة استفادت من ارتفاع اسعار البترول ومن الانفتاح على العالم. وطبعا فإن «الهوت كوتير» هي مطلبهم، لأنها كانت دائما عالما غير عادي، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار، ان الفستان هنا قد يكلف اكثر من 100.000 دولار.

برونو بافلوفسكي، الرئيس التنفيذي لدار «شانيل»، صرح انه لا يستبعد ان تتلقى الدار أكثر من 200 طلب رغم انها لم تطرح سوى 63 تصميما، وهذا يؤكد ان الأزياء الرفيعة لن تعاني من أي وجع مادي ما دامت هناك فئة تريد التميز والتفرد. وحتى في حال تأثرها، فهي لن تسبب أرقا كبيرا لأصحابها، لأنها لم تكن يوما الدجاجة التي تبيض لهم ذهبا، فهي «بريستيج» أكثر منها ربح مادي. فالضربة قد تأتي من تضرر مبيعات أحمر الشفاه والماسكارا والعطور وحقائب اليد، لأن هذه تعتمد على ذوي الدخل المحدود، لكنها لن تأتي من المنتجات المرفهة الموجهة إلى الطبقات المخملية.
 
ومع ذلك فإن الشعور الغامر في هذا الموسم، ان أغلبية المصممين راجعوا انفسهم، أو بدأوا يقرأون ما يجري من حولهم، الأمر الذي انعكس على تفريقهم الواضح بين الخيال الفانتازي والخيال الحالم، أو ربما فقط بدأوا يصغون إلى الفئة الجديدة من النساء اللواتي على أتم استعداد لصرف الآلاف من الدولارات على قطعة واحدة، على شرط ان يعشن الحلم في الواقع وليس في عالم فانتازي نسجه خيال المصمم، ومن ثم كان هذا الكم من الأزياء الرائعة، التي تجمع الفنية بالعملية، والحلم بالواقعية. فأزياء رفيعة تصرف عليها آلاف الدولارات لا تبرر سعرها إذا لم تكن مطرزة بخيوط من الذهب ومرصعة بأحجار الكريستال، لكنها في الوقت ذاته يجب ان تناسب امرأة تعيش وتتحرك على أرض الواقع وليست مجرد جسم محنط في متحف.

أكبر دليل على هذا التغيير، ما قدمه البريطاني جون غاليانو لدار «كريستيان ديور»، وهو اكثر مصمم يشتهر بجنونه وجنوحه للفانتازيا، لكنه هذه المرة فاجأ الكل بتقديم تشكيلة أكثر من رائعة وأكثر من واقعية، ليبرهن انه يستطيع ان يجمع بين الاثنتين، وبين حقبتين. الأولى تعود إلى العشرينات من القرن الماضي، وهو ما أكده مصمم القبعات ستيفن جونز، الذي أصبح الحاضر الدائم في عروض غاليانو بقوله: انه استوحاها من الرسام إدواردو غارسيا بينيتو، الذي اشتهر في العشرينات بأغلفته لمجلة «فوغ».

والثانية معاصرة تستلهم خطوطها وجمالياتها من سيدة قصر الإليزيه والعارضة السابقة كارلا بروني، بكل أناقتها وجاذبيتها. وربما كانت صورة هذه الأخيرة هي التي جعلت غاليانو يضع اقدامه على الارض وهو يرسم الموديلات. وكالعادة لم ينس ان يقدم تحية لمؤسس الدار ديور، بتركيزه على تحديد الخصر واستعمال امتار من الأقمشة التي تتسع عند الخصر على شكل تنورات مستديرة وفساتين فخمة.

دار «شانيل» بدورها عانقت الفخامة التي تجمع بين الكلاسيكية والفنية، من خلال استعمال التافتا والفرو والحرير والتويد لتخلق تصميمات محددة تعانق الجسم حتى توحي بالدفء، وتذكرنا بأن التشكيلة موجهة للخريف والشتاء. في بعض التصميمات كان الجسم يبدو وكأنه يسبح بارتياح بين نعومة الاقمشة أو الأشكال الأنبوبية التي تفنن كارل لاغرفيلد في صياغتها، تارة في الأكمام، وتارة في جيوب التنورات والفساتين، وإن كانت في بعض الحالات تجعل المشي صعبا. لكن في الغالب لم تكن الأشكال الانبوبية جامدة أو كلها مقيدة للحركة، بل العكس فقد كانت أشكالا تضج بالحيوية والموسيقى، خصوصا إذا عرفنا انها مستوحاة من آلة الأرغن الموسيقية، وهو ما لعب عليه المصمم لاغرفيلد، المعروف بعشقه لكل أنواع الموسيقى.

«شانيل» نصبت في وسط القاعة مجسما لهذه الآلة الموسيقية لتعطي الحضور فكرة عما ينتظرهم من سيمفونيات حالمة. ولم يخب الامل، فقد تهادت العارضات في تايورات من قماش التويد الذي تم تطويعه والتخفيف من سمكه ليبدو وكأنه دانتيل من بعيد، بعضه مرصع بالأحجار الفضية والكريستال بأحجام صغيرة جدا تكاد لا ترى للعين المجردة، لكنها تعطي تأثيرا قويا، ثم في معاطف تبدو من تحتها «شورتات» أو تنورات قصيرة، وهي معاطف تحدد الجسم وإن كانت مدورة بعد الخصر. لكن الفساتين كانت هي اللافتة هنا. فقد تفنن المصمم لاغرفيلد فيها كعادته، ولعب على فكرة الفستان الأسود الناعم الذي ابتكرته مؤسسة الدار، مدموزيل شانيل في العشرينات من القرن الماضي، وأعطاه لنا بألوان وأطوال مختلفة هذه المرة، وإن كان القاسم المشترك بين كل ما قدمه من تنوع، الأناقة الراقية والفنية التي يبدو انه مال إليها أكثر من ذي قبل، وليس أدل على ذلك من الأشكال الانبوبية.

بالنسبة لابن فرنسا الشقي، جون بول غوتييه، فقد أبدع أقفاصا من قماش وصوف أعطت تشكيلته بعدا رمزيا، إذ ان تحتها كانت كنوزا من الفساتين والمعاطف بألوان الاحجار الكريمة المتوهجة، كلها مفصلة بطريقة لا تترك ادنى شك بأنها ستلقى نجاحا تجاريا كبيرا. حتى عروسه ظهرت في آخر العرض بطرحة طويلة على شكل قفص بالابيض والفضي يظهر من تحتها فستان يعانق الجسم بتطريزات غنية. جون بول غوتييه دافع عن نفسه بعد العرض بقوله: ان الهدف من هذه الأقفاص ليس سجن المرأة، بل إظهارها كطائر الجنة، فبإمكانها ان تفتح هذه الاقفاص والتحليق بعيدا.

عند كريستيان لاكروا، لم تكن هناك أي شطحات فنية، إذ اقتصر على القديم ليترجمه بلغة تكاد تكون بسيطة ومفهومة للمرأة المتذوقة، بغض النظر عن قدراتها المادية، وهذا ايضا ليس جديدا، فلاكروا يقدم لوحات فنية يمكن لأي منا الاستمتاع بجمالياتها حتى وإن لم تثر فينا الرغبة في اقتنائها، لسبب أو لآخر، مثلها تماما مثل لوحات مونيه أو بوتيشيللي، فنحن نعشقها، لكننا نعرف أن مكانها المناسب ليس في بيوتنا. في هذه التشكيلة غاب الابتكار لمجرد تأكيد الذات أو إقناعنا بأن جعبته لا تزال مليئة، وبدا أكثر نضجا وثقة بنفسه. كانت هناك قطع رائعة تذكرنا بأنه من بين قلة من المصممين الكبار في الساحة العالمية حاليا، لكن كانت هناك قطعا أخرى مشابهة لما قدمه في مواسم سابقة، مثل جاكيت البوليرو المستوحى من ملابس مصارعي الثيران، وفساتين الدانتيل بالأسود التي تستحضر كونتيسات اوروبا وإسبانيا بالذات. لكن ما تؤكده هذه التشكيلة أنه لا يزال اكثر من يتقن لعبة الألوان المتضاربة التي يروضها لتصبح في غاية التناغم، وما يحسب له فيها استعمال تقنية «الكولاج» في بعض القطع التي جمعت الصوف مع الدانتيل مع التافتا وغيرها.

اللبناني إيلي صعب، تفوق على نفسه في هذا الموسم، فقد غابت التطريزات الغنية والكثيرة، وحل محلها تألق من نوع آخر، أكثر رقيا وأكثر حداثة وأكثر رومانسية. إيلي قال انه استلهم الوانه من كنيسة سيستين لمايكل أنجلو، ومن هنا كان الأزرق الرمادي، الوردي الهادئ والبنفسجي المائل إلى الأحمر. التصميمات كانت فخمة بكل المقاييس، ولا نقصد هنا التصميمات المنفوخة بشكل يستدعي بلاطات القرن الثامن عشر، بل حتى تلك المحددة على الجسم والمحددة عند الخصر بوردات أو أحزمة. الجميل في هذه التشكيلة، لعبة التدرج التي يبدو أن إيلي استمتع بها سواء كان هذا التدرج في الألوان أو في الأنواع المتنوعة من الاقمشة في الفستان الواحد.