هل بدأت تأثيرات انخفاض الأسهم على موضة الأزياء الجاهزة ؟

انطلق أسبوع الموضة الباريسي لربيع وصيف 2009 رسميا يوم السبت الماضي على يد مصممين شباب جدد، أما البداية بمفهومها الحقيقي بالنسبة لوسائل الإعلام والمشترين، فلم تبدأ سوى يوم الإثنين بعرض البريطاني جون غاليانو لدار «كريستيان ديور». فعرض هذا الأخير كان ولا يزال يلعب دور الشرارة التي تزود الاسبوع بالوقود والترمومتر الذي يحدد إيقاعه قبل ان تتوالى عروض الكبار من أمثال شانيل، لوي فيتون، كريستيان لاكروا، هيرميس، جون بول غوتييه، لانفان وغيرهم.


«إنها مجموعة تحمل مفهوم الأناقة الإثنية» هذا ما قاله مصمم دار كريستيان ديور، البريطاني جون غاليانو عن هذه المجموعة، وقصده من الأناقة الإثنية انه استوحاها من رحلات عديدة قام بها إلى جهات مختلفة من افريقيا، وصاغها بأسلوب عصري وشاب. العرض لم يكن مثيرا كما عودنا في عروضه السابقة، إذ لم يكن هناك جنون ولا شطحات فنتازية، لكنه كان ممتعا بكل مقاييس الجمال والاناقة. فقد كان هناك نضج واضح في أسلوبه، إلى جانب خبرة بسوقه، وما تريده معجباته، وربما ايضا لأنه يعرف ان الوضع الاقتصادي الحالي لا يشجع على ان يشطح بخياله بعيدا عن ارض الواقع، الأمر الذي انعكس على بخله في استعمال الاقمشة. فقد كانت معظم القطع قصيرة وشفافة تعمد ان لا يبطنها.

أول ما أعطى الانطباع بأنه سيأخذنا في رحلة إلى افريقيا، تسريحات العارضات، التي جاءت مشدودة إلى اعلى وكأنها قبعات عالية، أما ما عدا ذلك، فهي كما قال اناقة إثنية عصرية جدا، خصوصا ان النقوشات كانت ناعمة وهادئة للغاية لا توحي بأنها من القارة السمراء. بدأ العرض بمجموعة من القطع المنفصلة التي كانت فيها التنورة القصيرة هي النجم بلا منازع، فهي مرة تظهر تحت كورسيه ومرة مع قميص، ومرة مع جاكيت، إما مفصل على الجسم بطريقة عصرية، او يعانق الخصر بواسطة حزام ليذكرنا بإرث الدار الفرنسية العريقة، أو ما أصبح يعرف بـ«دي نيو لوك» الذي ارتبط باسمها منذ الخمسينات من القرن الماضي، فيما اقتصر الفستان، القصير ايضا، على مجموعة أقل بالمقارنة. بعد هذه المقطوعة المتناغمة من القطع القصيرة، بدأت سيمفونية الفساتين الطويلة التي كانت مجرد نسخة مطولة عن الأولى، من حيث الأقمشة أو الفكرة. فغاليانو في الإثنين، لعب على ازدواجية مثيرة تمثلت في الشفاف والكثيف، وفي المنسدل بحرية والبليسيه.

فالتنورات جاءت في أغلبها شفافة من الشيفون والأورغنزا المتراقصان على تقنية البليسيه، بينما جاء الجزء الأعلى سميكا، إما من جلد الحيوانات او الزواحف، أو مطرزا بزخارف مستلهمة من أجواء افريقيا، أغلبها من العاج أو احجار الكريستال. القطعة الغائبة من عرضه كانت البنطلون باستثناء قطعة يتيمة من الليكرا باللون الاسود نسقها مع جاكيت يحدد الخصر بحزام مبتكر. ومما لا يدعو إلى الشك بان الوضع الاقتصادي كان على باله عندما صمم هذه التشكيلة، كونها جاءت مضمونة مائة في المائة، رغم انها لا تبدو كذلك للوهلة الاولى. فهي تخاطب كل الأذواق، بمن فيهم نجمات هوليوود وأوروبا اللواتي اكتظت بهن مقاعد الصفوف الأمامية، حيث كانت هناك من الممثلات إيفا غرين، إيما واتسون والفرنسية الحائزة على جائزة الاوسكار، ماريون كوتيارد، ومن المغنيات ليلي آلن وكايتي بيري، إلى جانب العارضة ستيفاني سيمور والراقصة ديتا فون تيس، التي يبدو انها اصبحت وجها من وجوه عروض باريس الدائمة.

لكن للزبونات الأكثر كلاسيكية وولاء لأسلوب الدار، فقد قدم الجاكيتات المفصلة من الصوف الخفيف جدا، التي نسقها مع احزمة في غاية الابتكار، حددت الخصر واضفت على المظهر ككل الكثير من الاناقة والحداثة، وبالتالي يمكن للمرأة الناضجة ان تلبسها مع اي قطعة تراها مناسبة، وللشابة المواكبة للموضة، مع تنورة قصيرة مثلما ترجمها غاليانو لربيع وصيف 2009، لاسيما انها تأتي بنقوشات ناعمة متنوعة وألوان «تزغلل» العيون، مثل الاصفر والبرتقالي والأزرق السماوي والوردي والرمادي والاسود فيما يتعلق بالمساء والسهرة. صحيح انه استقى هذه الألوان من اجواء افريقيا الصارخة والدافئة في الوقت ذاته، إلا أنها ايضا تستحضر أجواء البحر والمنتجعات الصيفية، وكل ما هو راق ومترف، ربما لأنها بألوان الاحجار الكريمة ايضا. ولأن غاليانو يعرف أكثر من غيره انه ليس كل ما يعرض على المنصات يلبس وقابل للبيع، فإنه من خلال هذه التصميمات اعطى المرأة عدة خيارات، منها ان التنورات الشفافة جاءت واسعة ومنسابة بشكل يتيح تبطينها لإخفاء تفاصيل الجسم، او ارتداءها مع قطعة منفصلة اخرى، بنطلون جينز للنهار، مثلا، وهو الأمر الذي سيكون ضروريا، إلا إذا كانت المرأة تقوم بعمل مماثل لعمل الراقصة ديتا فون تيس أو جريئة إلى حد الاستعراض.

غاليانو نفسه صرح: «هناك خيارات أكبر في المحلات». لكن ما لن يحتاج إلى ترويض أو تطوير في هذه التشكيلة، فهي حتما الأحذية الرائعة التي طرحها، وإن كانت تناسب المساء اكثر ببريقها وأحجارها والوانها، بل حتى بكعوبها المنحوتة عل شكل قوالب سجينة بداخل سبائك تبدو من بعيد كما لو كانت من ذهب. ما سيجعلها خبطة تجارية انها رغم علوها، الذي يقدر بست بوصات، انها بدت مريحة مقارنة بتلك التي طرحتها ميوتشا برادا، خلال اسبوع ميلانو الاخير، وأدت إلى سقوط عارضة على المنصة، مما أثار الاستنكار والاستهجان وشبه ثورة على موضة الأحذية العالية جدا.

احذية غاليانو، في المقابل، كانت مشدودة بعدة احزمة سلامة ومفصلة على القدم، مما يساعد على التحكم فيها، عدا ان ارتفاع الجانب الأمامي منها منح الكعب العالي نوعا من التوازن. كان منها ايضا ما استوحي من صنادل محاربي اليونان القدامى المفتوحة والعالية الساق، ما يعرف بتصميم الغلادياتور، مع فارق مهم انه أعطاها علوا صاروخيا، لن يجعل المحاربة بها سهلا، لكنه حتما يجعلها سلاحا يصيب بمقتل إذا دعت الحاجة. قبل عرض المايسترو غاليانو بساعات، احتفلت دار «كاشاريل» بعرض كان عبارة عن شريط ذكريات لخمسين سنة من الإبداع، من خلال تشكيلة احتوت كل القطع التي يمكن ان تخطر على البال، وبالذات النقوشات التي اصبحت ماركة الدار المسجلة. فقد كانت هناك فساتين النهار وملابس البحر، مثلا، فضلا عن قمصان وتنورات وغيرها واكسسوارات شتى غلب عليها اسلوب الستينات والسبعينات، بكل ما تعنيه من انطلاق وحرية. وكانت موسيقى المغني الفرنسي ميشيل ديلبيش، الذي اشتهر في هذه الفترة اكبر تفسير لمحتوى التشكيلة وفكرتها وكأن المؤسس جون بوسكيه ومصمميها الحاليين، الزوجان إيلي ووكاكو كيشيموتو ارادا من خلالها ان يقولا ان امرأة كاشاريل لا تزال شابة مرحة ومنطلقة لم يغيرها الزمن أو يؤثر فيها.

بدوره احتفل المصمم مارتن مارجيلا بمرور 20 عاما على تأسيس داره بعرض يحاكي الفن ومن الصعب ان يجد له مكانا في ارض الواقع. أما بالنسبة للمصمم التركي الاصل، دايس كاييك، فقد قدم مجموعة تحاكي الهوت كوتير بكل تفاصيلها. فهو لم يقدم سوى عشرين قطعة تقريبا، لكن كل واحدة منها كانت تحكي الف قصة وقصة، بدءا من استعماله للونين الابيض والاسود، إلى تقنية الدرابيه والطيات التي تلتف حول الجسم وكأنها اعاصير. المخضرمة البريطانية فيفيان ويستوود، التي بنت شهرتها على موضة البانكس والدبابيس، تريد ان تعيدنا إلى هذه الفترة، أو ربما فقط أرادت ان تعطينا درسا في الاعتماد على النفس بحياكة ملابسنا بأنفسنا في ظل الركود الاقتصادي الذي يهدد العالم.

فيفيان ويستوود ذهبت إلى أبعد من هذا وكتبت في الملف الذي وزع على الحضور: «في الأوقات الاقتصادية العصيبة، تأنقي، لكن هناك تميزا ايضا عندما ترتدين قطعتك المفضلة مرارا وتكرارا حتى تتمزق ولا تعود صالحة للارتداء»، الأمر الذي سيوافقها عليه البعض، بلا شك، لكنه يعتبر تناقضا، بل وازدواجية، في عالم يعتمد على الجديد والتجدد.