الحشائش البرية تعود إلى الموائد اللبنانية

إذا دخلنا عالم الحشائش البرية التي طالما شكلت جزءا من الغذاء السليم للقروي اللبناني
إذا دخلنا عالم الحشائش البرية التي طالما شكلت جزءا من الغذاء السليم للقروي اللبناني

يظهر اللبنانيون ميلا متزايدا إلى العودة إلى جذور الطبيعة والأرض في زمن طغى عليه «الفاست فود» والغذاء المصنَّع والمعلب. وعلى رغم توفر الزراعات العضوية التي تتنامى إنتاجا واستهلاكا، يبقى الحنين أقوى إلى الحشائش البرية التي اعتاد أهالي القرى جمعها وتناولها بشهية وراحة للجسد والجيب، والتي تزخر بها الحقول والمساحات البرية، ساحلا وجبلا، و«الحواكير» (البساتين) التي تلف المنزل عادة ما إن تروى بأول المطر، من دون أن ننسى أن لبنان هو في الأساس جمهورية قرى، أكثر منه جمهورية مدن وأسمنت وزفت.


وإذا دخلنا عالم الحشائش البرية التي طالما شكلت جزءا من الغذاء السليم للقروي اللبناني، وحتى بعد انتقاله للسكن في المدينة، لوجدنا أنه عالم واسع شاسع يجمع بين النكهة الطيبة والفائدة الصحية المضمونة، إضافة إلى أن مكونات هذا العالم تجنب الجسم ضرر تناول المواد الحافظة والسماد الكيميائي.

ويمكن أن نقسم الحشائش البرية التي يتناولها اللبنانيون بشغف إلى فئتين: فئة الحشائش التي تنبت في الحقول، وفئة الحشائش التي تنبت في حدائق المنازل.

ويبدو الصعتر نجم الفئة الأولى، وهو ثلاثة أنواع: صعتر «المونة» (المؤونة)، أي ذو الأوراق العريضة، والصعتر الدقيق أو الدقة، كما يسميه القرويون، وهو القصير العنق وذو الأوراق الرقيقة والرفعية، والصعتر الرملي.

الأول هو الصعتر الذي يكاد لا يخلو منه بيت لبناني، سواء في المدينة أو الجبل، وهو يُجمع من الأراضي البور في شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز)، من كل سنة، ويعلق رزما رزما في الفيء، لأن تعريضه لأشعة الشمس يجعله مائلا إلى السواد، أما تجفيفه في الفيء فيحافظ على لونه الأخضر، ثم ينقَّى من العيدان ويدق في كيس من القماش أو في المطحنة، ثم ينخل ويضاف إليه السمسم المحمص، ويستخدم في المنقوشة مع الزيت أو يؤكل صباحا نيّئا مع الزيت وبعض الخضار، أو يمزج ببعض الوجبات كالبيتزا أو يلف به الشنكليش (نوع من اللبنة الجامدة على شكل كرات)، أو يغلى مع حشائش ونباتات أخرى لشرب نقيعه.

وفي بعض الجبال ذات الأراضي الرملية ينبت الصعتر الرملي ذو الساق الطويلة والأوراق والأزهار البالغة الدقة، وهو لا يستخدم بمفرده، بل يضاف إلى صعتر المؤونة لإضفاء مزيد من الطعم الحاد أو الفلفلي.

أما صعتر الدقة فلا ينبت إلا في الأراضي المهملة القريبة والبعيدة، ويمكن جمع رؤوسه الطرية في الربيع، إما لتناوله سلطة مع الحامض والزيت، وإما مع وجبة «المجدرة» (العدس المطبوخ)، وإما لإضافته إلى الزيتون المكبوس، وإما لكبسه مع الخل.

وننتقل من الصعتر، الذي يؤكل أيضا أخضر كسلطة أو مع الزيتون، إلى القرصعنّة، التي تنبت في البراري وتجمع - أو تسلق حسب تعبير اللبنانيين - في مطلع فصل الشتاء، والمرغوب منه هو الطري الذي ينبت عادة بين الأغراس أو في الأحراج، حيث لا تدوسه الأقدام ولا تكويه الشمس.

وتفرم هذه النبتة فرما دقيقا ويضاف إليها البصل المفروم ثم الحامض والزيت وبعض الملح، وتؤكل كالسلطة وحدها أو مع وجبة «المجدرة»، وتعمد بعض ربات البيوت إلى تحويلها كبيسا.

وكما تحضر القرصعنة تحضر الهندباء البرية، الشبيهة بالهندباء التي تزرع في الحدائق والبساتين، وإنما هي أصغر ورقا وتمتاز ببعض المرارة في الطعم. وكذلك نبتة «القرّة»، التي تنبت على ضفاف السواقي أو قنوات المياه، وأوراقها شبيهة بالقرصعنة، ولكنها أطول لأنها تشبع بالماء، وأغزر أوراقا وأسهل مضغا.

والتحضيرات نفسها تطبق على نبتة «راسو بعبو» أو «العلت» التي تنزع من التربة بالسكين، وقد أطلق عليها القرويون هذا الاسم لأن أوراقها تكون مائلة إلى أسفل قبل أن تقتلع، وعندما تنزع من التربة تميل الأوراق بشكل مختلف بما يوحي بأنها تخبئ رأسها في «عبّها».

وثمة نبتة برية ذات نكهة مميزة تدعى «الشومار» أو «الشمر»، وهي تكثر في الطبيعة وغزيرة بالبذور، ولذلك تتكاثر باستمرار لأن ما يقطف منها هو «الطربون»، أي رأس الفرع الطري الذي تشبه أوراقه الشعيرات، وينبغي قطفها خضراء قبل أن تقسو.

وتفرم الطرابين بصورة خاصة مع وجبة «العجة» (البيض المقلي مع بعض الطحين والشومار)، ما يضفي عليها نكهة مميزة. وتستعمل أعناق النبتة مع زيتون المؤونة لإضافة نكهة خاصة إليه. وتلجأ بعض ربات البيوت إلى تحضير كبة الشومار التي تقضي بإضافة البرغل (القمح المجروش) إلى الشومار المفروم مع قليل من الطحين، ثم يمد الكل في صينية وتدخل إلى الفرن.

وفي فصل الشتاء يتسابق القرويون على قطاف الهليون البري الذي ينبت بين الصخور وأماكن الفيء عند ضفاف الأنهار والتربة الرطبة، وتضاف هذه النبتة إلى البيض المقلي، ما يضيف إليه نكهة مميزة. وفي الشتاء أيضا تظهر نبتة «الحميضة» البرية التي تفرم وتحضر فطائر مقفلة، لأن حامضها منها وفيها. وهناك نبتة «الدردر» البرية التي تقطف أوراقها في مثل هذه الأيام، وهي شبيهة بأوراق الفجل. ثم تسلق وتعصر ويضاف إليها الثوم والحامض وتؤكل بشهية.

وتحتل نبتة «العكوب» موقعا مميزا بين النباتات البرية المثيرة للشهية، وهي نبتة شوكية من عائلة «الأرضي شوكي» (الخرشوف)، وتنمو في جرود لبنان، وبالأخص في مناطق الجنوب القريبة من فلسطين، حيث تمثل هذه النبتة وجبة مفضلة بأوراقها وأعناقها وجذورها، وخصوصا الرؤوس غير الناضجة. وتنظيف العكوب عملية مؤلمة لكثرة أشواكها. ويمكن تحضيره فطائر، أو مقليا مع البيض، أو مع اللبن باللحم، أو مقلوبة مع الأرز واللحم.

والفئة الثانية من الحشائش البرية تتكون بصورة أساسية من «الخبيزي» (الخبازي) والبقلة (بلغة أهل بيروت) أو «الفرفحين» بلغة أهل الجبال. وهاتان النبتتان تظهران في الجنائن المحيطة بالمنازل. فالخبازى يطبخ مثل الهندباء مع الحمص والبصل المقلي والحامض، أو يغلى ليتناول شرابه الساخن لكونه مضادا مميزا للالتهابات، لا سيما التهابات الحنجرة، وتغسل الأعين بنقيعه للغرض نفسه.

ويضيف البعض إلى طبخه نبتة الشومار. أما الفرفحين البري فيؤكل سلطة مع الحامض، أو يضاف إلى مختلف أنواع السلطات، أو يؤكل مع الزيتون، أو تصنع منه الفطائر. وهو يتميز بقدرته على رفع الكولسترول الحميد في الدم.

وغالبا ما يشكل «السليق» (عملية جمع هذه الحشائش) فرصة لـ«البيك نك» في أحضان الطبيعة، وذلك باصطياد يوم صحو بعد فترة من الأيام الممطرة، إذ تتفق الجارات في القرى على الذهاب مع الأولاد في يوم العطلة لقطف ما تيسر من الحشائش، فيحضرن زادا من خبز المرقوق والبيض والبطاطا المسلوقة وبعض الزيتون والبندورة، ويجهزن الأكياس والسكاكين لقطع كل صنف من أصناف هذه الحشائش، وفق الأصول الملائمة له، وقد يجمعن باقات الزهر البري ليعدن إلى المنازل مع غلالهن وباقاتهن، والأولاد المنهكين من اللعب في الحقول والبراري.

يبقى أن نشير إلى أن كثيرين لا يجدون متسعا من الوقت للبحث عن هذه النباتات وجمع الكميات الكافية منها، لذا يقصدون بعض المخازن التي عرفت قيمتها ودأبت على بيعها بأسعار ليست متهاودة... أو «يتصيدون» مرور بعض نساء «النَوَر» (الغجر) اللاتي يتجولن بأحمال معقولة من هذه النباتات، أو يقصدن بعض الأماكن في الأحياء أو على جوانب الطرق الرئيسية، ويفرشن بسطاتهن وينادين على محتوياتها للفت لجذب المارّة.