تصلب الشرايين .. تصورات جديدة لفهم عمليات نشوئه وتطوره ومعالجته

النوبات القلبية التي لا تؤدي إلى الوفاة، تلحق أضرارا دائمة بعضلة القلب. وهذا ما يقود إلى عجز القلب.
النوبات القلبية التي لا تؤدي إلى الوفاة، تلحق أضرارا دائمة بعضلة القلب. وهذا ما يقود إلى عجز القلب.

تصلب الشرايين Atherosclerosis، حالة تراكم للترسبات الدهنية في الشرايين، وهو السبب الرئيسي لغالبية النوبات القلبية.


ومن السهل وصفه بأنه مشكلة انسداد في المجاري، حدثت بسبب وجود فيض من الكولسترول. وفي هذا السيناريو فإن الانسدادات الممتلئة بالكولسترول تظهر في الشرايين التاجية، وهي شبكة من الأوعية الدموية التي تغذي عضلة القلب.

والانسدادات الصغيرة تحتل حيزا من مجرى الدم، الأمر الذي يصعّب من مهمة الشريان في تغذية القلب بالدم المشبع بالأوكسجين أثناء إجراء التمارين الرياضية أو في حالات التوتر، وهذا ما يسبب ألم الصدر وحدوث ما يعرف بـ «الذبحة الصدرية».

أما الانسدادات الكبيرة فإنها تغلق الشريان تماما، مسببة النوبة القلبية.

نظرة جديدة
وتدفع نتائج الأبحاث الجديدة إلى التفكير بإعادة النظر في تصوير الحالة بأنها مشكلة في المجاري، والبحث عن وصف أفضل لها.

والنظرة الجديدة ترسم لوحة أو صورة لتصلب الشرايين بوصفه حالة مزمنة تنشأ، وعلى نطاق واسع، بسبب الالتهابات.

وبهذا فإن الانسدادات تزاح إلى المرتبة الثانية، لتحتل مكانها الأضرار الواسعة الانتشار في الشرايين في القلب وخارجه.. من الشرايين المغذية للدماغ، إلى القدمين، وما بينها.

والتفكير الجديد يفسر الكيفية التي تتقدم فيها حالة تصلب الشرايين، من دون توقف، ثم تتفجر في لحظة واحدة.

وهذا التغيير ينبغي له أن يغير الطريقة التي يوظفها الأطباء ـ وكل واحد منا ـ لحماية قلوبنا وشراييننا ومعالجتها.

 فالتركيز يجب أن يتحول إلى عمليات إبطاء تصلب الشرايين وإيقافه، بل وحتى معاكسة عملية حدوثها، وليس فقط على رصد الانسدادات ومعالجتها.

ودرء حدوث تصلب الشرايين منذ بدايته، يمثل أفضل الاستراتيجيات.

مسلسلة القلب والأوعية الدموية
إن الرحلة من الشريان السليم.. نحو النوبة القلبية، عادة تجري عبر مراحل معينة، انطلاقا من الظهور المبكر للشرائط الدهنية في جدران الشريان، إلى تراكم الترسبات عليه.

وفي بعض الأحيان فإن الترسبات تندفع نحو داخل الشريان، الأمر الذي يعيق تدفق الدم فيه، وفي أحيان أخرى تندفع نحو خارجه.

وعلى الرغم من الترسبات الكبيرة هي التي تتفجر في الغالب، مؤدية إلى النوبة القلبية، إلا أن الترسبات الصغرى بمقدورها الانفكاك عن الجدران أيضا.

والنوبات القلبية التي لا تؤدي إلى الوفاة، تلحق أضرارا دائمة بعضلة القلب. وهذا ما يقود إلى عجز القلب.

تكون شرايين الطفل النشيط الذي يتناول أغذية صحية، ناعمة ومرنة. والبطانة الداخلية لها التي تسمى endothelium، نقية.

وتستجيب الشرايين فورا لطلبات الأنسجة من الدم المشبع بالأوكسجين. ولكن، قدم لذلك الطفل غذاء غربيا، ثم اطلب منه عدم اللعب راكضا في لعبة «الاختفاء» (الاستغماية)، واستبدالها بلعبة الكترونية، تجد أن حالة «الشرايين البريئة» هذه تأخذ في الزوال، إذ تبدأ الشرائط البيضاء بتلطيخ بطانة جدران الشرايين.

وعندما يأخذ المراهق ثم الشاب، ثم الكبير، باتباع نظام الغذاء الغربي، فإن هذه الشرائط تتحول تدريجيا إلى ترسبات تؤدي إلى تصلب الشرايين، وهي رقع من المواد السامة التي تقود إلى حدوث الذبحة الصدرية، النوبة القلبية، السكتة الدماغية، أمراض الكلى، فقدان الذاكرة، المشاكل الجنسية، آلام الأرجل، والمشاكل الأخرى في الأوعية الدموية.

وفي النظرة القديمة إلى تصلب الشرايين، فإن الترسبات تتكون لأن الشخص تناول الكثير من الكولسترول، أو أن الكبد قد أنتج منه كميات كبيرة. وكان هذا معقولا، لأن الشرائط الدهنية والترسبات مليئة بالكولسترول. إلا أننا نعلم أن الالتهابات تساعد على تحفيز عملية حدوث الترسبات.

إن تصلب الشرايين يبدأ مع حدوث خدوش أو أضرار في بطانة الشريان الناعمة: بسبب عدوى موضعية، ارتفاع ضغط الدم أو ارتفاع سكر الدم، سيل من إشارات الالتهاب الآتية من دهون الجسم الزائدة، أضرار ناجمة عن تدفق الدم الدوّار، المواد الكيميائية السامة من دخان السجائر.. ثم نعم، وحتى من الدهون الكثيرة أو الكولسترول الكثير في مجرى الدم.

وهذه الأضرار تقود إلى أن تتحول بعض الخلايا في بطانة جدران الشرايين إلى خلايا لزجة. وهي مثل الأوراق اللزجة التي تعلق لاصطياد الحشرات، تصطاد خلايا الدم البيضاء، ثم تدفعها إلى الحفر داخل بطانة الشريان.

 وخلايا الدم البيضاء هذه تحرك بدورها خميرة من الخلايا الملتهبة وإشاراتها.

ومع الزمن، تتكون مصفوفة جديدة من الأنسجة، تقوم باستقطاب الدقائق التي تحمل الكولسترول منخفض الكثافة LDL نحوها، وهي دقائق تدور ببراءة في مجرى الدم.

 وما أن يدخل هذا الكولسترول إلى داخل الخلايا فإنه يتأكسد من قبل مكونات الخلايا. وتشعر خلايا الدم البيضاء بهذه المتغيرات بوصفها مهددة للجسم ولذلك فإنها تبحث عن الكولسترول منخفض الكثافة المتأكسد للتوجه نحوه.

وعندما تلتحق به لتموت فإنها ترسل إشارات التهابية أكثر، الأمر الذي يزيد من حدة هذه الدورة ويسرعها.

وهذا النشاط يقود إلى إحداث مساحات من الترسبات تكون مزروعة في أماكن متفرقة داخل بطانة الشرايين. وتفصل هذه المساحات عن مجرى الدم بواسطة غطاء خفيف.

انتشار الترسبات
الترسبات تنمو وتنتشر بطرق مختلفة، فبعضها ينمو مندفعا نحو الحيز المفتوح داخل الشريان (التجويف (the lumenالذي يتدفق عبره الدم.

وهذه الترسبات هي النتوءات والتضيقات التي يمكن لصور أشعة القلب رصدها. ورغم أنها كانت موضع اهتمام أطباء القلب، فإنها لا تشكل سوى رأس جبل الجليد.

إن وجود ترسبات على جدران أحد الشرايين التاجية يعني وجودها حتما على شريان تاجي آخر، إضافة إلى وجودها على شريان سباتي وعلى الأوعية الدموية الأخرى الأصغر التي تغذي الدماغ، وعلى الأوعية الدموية المغذية للكليتين، وعلى الأورطي في وسط الجسم، وهو المغذي الرئيسي للجانب الأسفل منه، وعلى الشرايين المغذية للرجلين والقدمين.

إلا أن أكثر رقع الترسبات تندفع نحو الخارج، بعيدا عن التجويف. وهي لا تعيق تدفق الدم، كما أنه لا يمكن رصدها بأشعة القلب أو باختبارات الإجهاد.

وفي بعض الشرايين، خصوصا الصغيرة، تغطي الترسبات كل جدرانها. إلا أن هذا التغير المتناظر لا يمكن رصده أيضا بأشعة القلب.

وفي النظرة القديمة لتصلب الشرايين فإن النتوءات الكبرى هي التي سببت النوبات القلبية. وربما كان ذلك بمقدورها بالطبع، إلا أن الخطر يأتي من الترسبات الناعمة التي تمتلك غطاء خفيفا لا يكاد يلامس الشريان.

عندما تبدأ الترسبات بالانفكاك عن الجدران، فإنها تبدأ في نفث مكوناتها في مجرى الدم. ويشرع الجسم في الرد على ذلك، كما لو أن جرحا حدث في الجلد. إذ يأخذ في إرسال جيش من الجزيئات لمنع تدفق تلك المكونات، والعمل على التئام ولصق موقع الانفكاك.

وإن كان الموقع صغيرا وتم إصلاحه بسرعة فإن الأمر يمر من دون ملاحظته.

إلا إن كان موقع الانفكاك شاسعا فإن الكتلة المنفلتة بمقدورها سد الشريان ومنع تدفق الدم عن جزء من عضلة القلب.

 وهنا تحدث النوبة القلبية. ولا يصل الأوكسجين إلى جزء عضلة القلب الذي توقف عنه الدم. وإن لم تذب الكتلة أو تزال بسرعة، فإن خلايا عضلة القلب تموت.

وعندما تنفصل الترسبات في الشريان المغذي للدماغ، أو في أي موقع آخر من الجسم، فإن الكتلة تتوجه نحو المخ، مؤدية إلى سكتة إسكيمية (ناجمة عن نقص التروية الدموية)، وهي أكثر أنواع السكتات الدماغية شيوعا.

تحولات في وسائل العلاج
النظرة التقليدية لأمراض الشرايين التاجية تركز على انسداداتها. ولذلك يقوم أطباء القلب برصدها بأشعة القلب واختبارات الإجهاد. وإن لم يتم العثور على الانسدادات، يقال للأفراد عادة إن صحتهم «جيدة»، وذلك رغم شعورهم أحيانا، بألم في الصدر وأعراض أخرى.

وإن تم العثور على الانسدادات، فإن العلاج يتركز عادة على إزالة الترسبات بالبالون ووضع الدعامات (أو الحصائر) المعدنية لإبقاء الشرايين مفتوحة. والخيار الآخر هو الجراحة الهادفة إلى خلق مجاز يمر فيه الدم بدلا عن الشريان المسدود.

ومع ذلك فإن أنواع العلاج هذه، لا تبدو سوى عمليات تأخير أكثر من كونها علاجات شافية. وبما أنها لا تحل المشكلة الأساسية نهائيا ـ أي تصلب الشرايين ـ فإن ترسبات أخرى في شريان تاجي أو في شريان آخر قد تتفجر.

والأمر المطلوب هو مكافحة تصلب الشرايين والالتهابات أيضا.

وتقريبا فإن كل البالغين لديهم تصلب في الشرايين. ولكن كيف لنا أن نعلم درجة تصلب الشرايين لدينا، وكيفية حماية القلب والشرايين منه؟

إن كنت من بين الأفراد الذين يقل لديهم خطر النوبة القلبية، فإن النظام الغذائي الصحي والتمارين الرياضية اليومية هي أفضل الإجراءات الواقية. أما إن كنت مصابا بمرض في القلب أو أنك معرض أكثر لخطر النوبة القلبية، فإنك بحاجة إلى مهاجمة المرض بكل الأشكال، بإجراء التمارين الرياضية، وتناول الغذاء الصحي، وضبط مستوى ضغط الدم، الكولسترول، سكر الدم، وتناول الأدوية لضبط استقرار الترسبات، ومنع تكون الخثرات الدموية في شرايين القلب.

وإن كان الخطر الذي يواجهك متوسطا فتناول الغذاء الصحي ومارس الرياضة، ثم ضع استراتيجيات أخرى وفقا لحالتك.

إن النظرة الجديدة لتصلب الشرايين، تدفع أيضا باتجاه البحث عن وسائل جديدة لوقف الالتهابات الصغيرة التي ترتبط بتراكم الترسبات وتفككها.

وقد يقدم إدماج هذه الوسائل مع وسائل خفض الكولسترول منخفض الكثافة، نتائج عظيمة.