أمراض الغذاء المحمولة .. بين العدوى والتسمم

ملايين الإصابات تحدث بسبب السموم والعدوى فيه
ملايين الإصابات تحدث بسبب السموم والعدوى فيه

لا يكاد يمر أسبوع من دون أن تتوالى الأنباء عن ظهور أعراض لإصابات مرضية نتيجة تناول أنواع الغذاء الملوث وانتشار العدوى التي يحملها، سواء كان هذا الغذاء من الفول السوداني والتوابل، شطائر الهمبرغر والسبانخ، الدجاج والأجبان، بل وحتى الكعك الصغير.


ما الذي يحدث لشبكة إنتاج وتوزيع الغذاء الأميركية؟ وما الذي ينبغي علينا، كأفراد وكمجتمع، اتخاذه لكي نجعل غذاءنا سليما وآمنا وصحيا؟

وفي هذا الموضوع نتناول العوامل التي تساعد على انتشار أمراض الغذاء، على أن نتناول لاحقا موضوع الوقاية الشخصية منها.

على الرغم من أن الأمراض التي تنتشر عدواها بين الأغذية، مشكلة مثيرة للقلق حاليا، فإنها ليست جديدة.

فقبل 100 عام مضت كان عدد كبير من الأميركيين يصابون بمرض السل نتيجة تناولهم الحليب الملوث، وبحمى التيفوئيد والكوليرا لتناولهم الماء الملوث، وبداء الترخينة (الترايكينيلا) trichinosis (وهو حالة عدوى من يرقات دودة خيطية لولبية) من تناول اللحوم الملوثة.

وقد قضي على كل أنواع تلك العدوى بفضل عملية بسترة الحليب، وتحسين عمليات التعليب والتبريد، وتحسين شبكة الصرف الصحي، وتعقيم مصادر المياه.

ولكن، وعلى الرغم من كل هذا التقدم فإن الأمراض التي يحملها الغذاء لا تزال موجودة، بل وإنها اتخذت أبعادا جديدة خلال عقود السنوات الماضية.

عوامل متعددة
يساهم الكثير من العوامل في تجدد المخاوف من سلامة الغذاء، فقد توسع قطاعا الزراعة والمعالجة الصناعية للغذاء بشكل هائل، كما ينقل الغذاء إلى مواقع بعيدة داخل الولايات المتحدة - وكذلك نحوها من مختلف بقاع العالم.

وقد يؤدي التلوث الحاصل في موقع ما إلى حدوث أمراض في مواقع بعيدة عنه، مما يجعل من الصعب رصد انتشار العدوى بسرعة، إضافة إلى صعوبة رصد مصدر المرض. وتؤدي عمليات الرعي والزراعة في مراع وحقول شاسعة إلى حشر أعداد كبيرة من الحيوانات سوية، الأمر الذي يسهل انتقال البكتريا الضارة وانتشارها.

ومع إضافة المضادات الحيوية إلى علف المواشي فإن هذه البكتريا تكتسب تدريجيا صفات مقاومة لتلك الأدوية.

ويزيد من هذه المشكلة تغير عادات الأكل، الذي قاد الأميركيين إلى تناول الطعام أكثر من قبل في المطاعم، وهذا يعني أنهم لا يحضرون طعامهم بأنفسهم.

كما زاد منها ازدياد نسبة الأشخاص المتقدمين في أعمارهم بين السكان، المصابين بأمراض مزمنة، الذي يكونون حساسين تجاه العدوى التي يحملها الغذاء.

ويضاف إلى هذا، أخيرا، تشتت الهيئات المسؤولة عن سلامة الغذاء، وازدياد أعبائها الكثيرة، ومعاناتها من نقص التمويل.

ومن حسن الحظ أن هذه المشكلات لم تقد إلى عودة العدوى بسم البوتولينيوم والكوليرا. إلا أنها أدت إلى حدوث إصابات بلغ عددها 76 مليون إصابة تقريبا في الولايات المتحدة سنويا، منها نحو 350 ألف إصابة خطيرة تتطلب التنويم في المستشفى، و5 آلاف قاتلة. وتكلف هذه الإصابات مبلغ 7 مليارات دولار من الموازنة الصحية السنوية الأميركية.

عدوى أم تسمم؟
هناك نوعان رئيسيان من أمراض الغذاء:

- «التسمم الغذائي»: ويبدو اسمه مخيفا، ولكنه - وفي ما عدا التسمم بسم البوتولينيوم botulism - لا يمثل في الواقع إلا حالة خفيفة.

وعند حدوث هذه الحالة فإن الغذاء يكون ملوثا بالبكتريا المسببة للمرض، مثل المكورات العنقودية Staphylococcus وأنواع بكتريا Clostridium وأنواع البكتريا من العصيات Bacillus. وتولد البكتريا السموم التي تبقى داخل الغذاء.

ويؤدي طهي الغذاء إلى القضاء على البكتريا من دون القضاء على سمومها. ولذا فإن الأشخاص الذين يتناولون الغذاء الملوث بالسموم يصابون بأعراض التقلصات المعوية والإسهال خلال فترة تمتد بين 6 و12 ساعة، يصاحبها التقيؤ أحيانا، وقد يشعر الإنسان بالإنهاك والجفاف. إلا أن التسمم الغذائي لا يتسبب أبدا في ظهور الحمى أو النزف المعوي.

وتنحسر أعراضه لحالها خلال يوم أو ما شابه. ولأن هذا المرض يظهر بتحفيز من السموم، وليس من البكتريا الحية، فإن التسمم الغذائي هو «حالة تسمم» وليس حالة عدوى حقيقية.

- العدوى: وأنواعها التي ينقلها الغذاء أشد خطرا، لأن الغذاء الملوث يحتوي على الميكروبات التي تتكاثر داخل أمعاء المريض الدقيقة.

كما أنها قد تتغلغل نحو الدورة الدموية منتشرة إلى أعضاء الجسم الأخرى. وإضافة إلى التقلصات المعوية والإسهال، يعاني المصابون من ارتفاع درجة الحرارة، كما قد تظهر لديهم أحيانا مضاعفات في بعض الأعضاء الأخرى.

وتظل غالبية العدوى التي يحملها الغذاء محصورة ضمن الجهاز الهضمي، ويمكنها أن تزول من دون استخدام المضادات الحيوية خلال أقل من أسبوع. ومع هذا فقد تحدث حالات عدوى خطيرة تتطلب علاجا قويا.

ميكروبات مفيدة وضارة
تضم الأمعاء الدقيقة خلايا من البكتريا تزيد بـ10 أضعاف عن عدد خلايا الجسم البشري نفسه. وهناك 1000 نوع من البكتريا في القولون، أغلبها غير ضارة، بل إن بعضها يساعد فعلا في الحفاظ على الصحة، وتقوم بدورها في تحليل المواد الكيميائية الضارة، وإنتاج فيتامين «كيه» K، ومحاصرة البكتريا الضارة.

ويعيش الإنسان بشكل متناغم مع 100 تريليون من البكتريا المعوية لأنها ميكروباته، وقد تعود على وجودها.

إلا أن صديقا لشخص ما قد يكون خصما لشخص آخر. وفي بعض الأحيان يحيا «هؤلاء الخصوم» في داخل شخص آخر، إلا أنهم، أي الخصوم، يعيشون في أغلب الأحيان داخل أجسام الماشية والدواجن والحيوانات الأخرى.

كما أن الفواكه والخضروات والمكسرات والمحاصيل الأخرى في المزارع قد تتلوث ببراز الحيوانات أو الإنسان في أي وقت، أو أثناء انتقالها من المزرعة إلى مائدة الطعام.

كما يمكن أن تتلوث لحوم الماشية والطيور أثناء ذبحها. وبما أن اللحوم المفرومة ناعما، أو السجق والنقانق المعالجة صناعيا، قد تتكون من أنواع من اللحوم فإن تلوثا منفردا في أحدها قد ينتشر بسرعة.

عمل داخلي
عندما يدخل سم متكون مسبقا إلى جسم الإنسان فإنه يأخذ فورا في العمل. ولذا فإن التسمم الغذائي يحدث فور تناول الطعام، بينما لا تتسبب العدوى الموجودة في الغذاء في ظهور الأعراض إلا بعد فترة تمتد من يوم واحد إلى سبعة أيام.

وخلال هذه الفترة تؤسس البكتريا موطئا لها داخل الأمعاء. وما أن تنمو هناك وتتكاثر، فإنها تأخذ في إفراز السموم والمركبات الضارة الأخرى.

وبعد أن يتراكم ما يكفي منها، تبدأ السموم في التأثير على بطانة الأمعاء مسببة التقلصات، الحمى، والإسهال الذي قد يصاحب بنزول دم.

وقد لا يكفيها ذلك، إذ يأخذ قسم من البكتريا بالنفاذ إلى مجرى الدم، الأمر الذي يتسبب في حدوث مشكلات أخطر.

إلا أن هذا يحدث نادرا لحسن الحظ. وفي أغلب الحالات يتمكن الجسم من الشفاء لوحده، خلال ثلاثة إلى خمسة أيام.

مقاومة الجسم
يمتلك الجسم كثيرا من الوسائل لرصد الميكروبات التي يحملها الغذاء. فحمض المعدة، والإنزيمات الهضمية التي تحلل الغذاء إلى عناصره المغذية بوسعها القضاء على بعض أنواع البكتريا، خصوصا إن كان تلوث الغذاء ضئيلا.

كما أن جهاز المناعة يستطيع توليد الأجسام المضادة التي تحشد خلايا الدم البيضاء المستهدفة للبكتريا، إلا أن هذه العملية تكون أبطأ.

ويمكن تصفية البكتريا التي تنفذ نحو مجرى الدم من قبل الكبد والطحال حيث تبتلع من قبل خلايا الدم البيضاء لتقليل أضرارها.

بل وحتى الإسهال الذي يعتبر أمرا كريها، بوسعه أن يكون وسيلة مفيدة للفظ الميكروبات ومخلفاتها من الجسم.

وهذا هو السبب الذي يحدو بالأطباء إلى عدم تحبيذ تناول الأدوية المضادة للإسهال لعلاج العدوى البكتيرية، إلا في حالات الإسهال الشديد المؤدي إلى جفاف الجسم.

وعلى نفس المنوال فإن من الأفضل للإنسان أن يدع جسمه ولوحده، أن يتحكم في السيطرة على العدوى.

ولكن وفي حالات الأعراض والمضاعفات الشديدة فإن الأطباء يصفون أدوية المضادات الحيوية. ويحتاج المرضى المعانون من نقص المناعة إلى المضادات الحيوية، كما أن الصغار جدا والكبار جدا يكونون مهددين أكثر بالعدوى المحمولة في الغذاء.

والوقاية هي طبعا أفضل سبل مكافحة العدوى، وذلك يعني بذل قطاع الزراعة والمؤسسات الحكومية الجهود لرفع مستوى معايير سلامة الغذاء، وإجراء التفتيش الدوري على الغذاء واختباره قبل وصوله إلى طبق الطعام، إضافة إلى اتخاذ التدابير الضرورية الشخصية في حفظ الطعام ومعالجته وطهيه.

إصلاح معايير السلامة
هناك حاجة إلى إصلاح منظومة التعامل مع سلامة الغذاء، فلتأمين السلامة الكاملة للغذاء فإن علينا التأكد من سلامته عند وصوله إلى الأسواق.

وهذا يعني درء تلوثه، وخلوه من الملوثات الكيميائية أيضا التي تتراوح بين المبيدات والمضادات الحيوية والهرمونات والمواد الكيميائية الضارة مثل الميلامين الذي لوث منتجات الغذاء في الصين عام 2007.

وتتطلب عملية الوقاية الحاجة إلى إصلاح على مستوى الدولة والولاية والمدينة والتعاون الكامل بين القطاع الخاص سواء من مستوردي الغذاء أو منتجيه من المزارعين وأصحاب المراعي، وقطاع صناعة الأغذية، إضافة إلى تنظيم حملات لتوعية المواطنين.

«تشعيع» الغذاء
إن كانت البسترة تقضي على البكتريا بواسطة عمليات تسخين الغذاء، فإن تعريض الغذاء للإشعاع (التشعيع) – على الرغم من أن اسمه يبدو مخيفا - يقضي على الميكروبات لدى تعرضها إلى طاقة الإشعاع المؤين.

ويطلق هذا الإشعاع من مولدات الحزم الإلكترونية، أو أشعة إكس، أو أشعة غاما. ولا تؤدي هذه العملية إلى رفع درجة حرارة الغذاء، كما أن الغذاء المعرض لها لا يتحول إلى مادة إشعاعية، مثلما لا يتحول الإنسان الذي خضع لتصوير الصدر بأشعة إكس، إلى إنسان إشعاعي! كما يحافظ الغذاء المعرض للإشعاع على شكله وطعمه وقيمته الغذائية.

وقد استخدمت طريقة تشعيع الغذاء على مدى عقود كثيرة من السنين وهي معتمدة في 40 دولة، وقد خضعت إلى تجارب على سلامتها شاركت فيها مجموعات بشرية (من ضمنهم رواد فضاء) وحيوانية كبيرة، لم تظهر فيها أي مشكلات صحية أو ارتفاع في خطر الإصابة بالسرطان. وقد أجازت استخدامها منظمة الصحة العالمية.

وفي الولايات المتحدة أجازت الحكومة الأميركية تشعيع الأعشاب والتوابل، لحوم الماشية والطيور، الفواكه، الخضروات والحبوب، البيض، والقمح. إلا أن 10 في المائة فقط من كل الأعشاب والتوابل و0.002 في المائة من كل أنواع الغذاء الأخرى تتعرض لعملية التشعيع.

ومن المثير للسخرية أن الكثير من الأدوات الطبية - من المشدّات إلى الأجهزة المزروعة داخل الجسم - تعقم بواسطة الإشعاع، من دون أن يثير ذلك حفيظة الناس!.