الباجة والتشريب في العراق .. أفطار صباح الزمن الجميل

الباجة والتشريب أطباق ثقيلة .. ولكن لا بد من تناولها
الباجة والتشريب أطباق ثقيلة .. ولكن لا بد من تناولها

الباجة أكلة عراقية خالصة اشتهرت بها العاصمة بغداد، ولكنها غزت جميع محافظات العراق بما فيها محافظات كردستان.. وكانت الأكلة الأكثر شهرة في سنوات الخمسينات والستينات، ولها مطاعم خاصة يديرها أسطوات معروفون بصنعها كانوا يعرفون بـ«القاورمجية»، وكانت الباجة هي الوجبة الصباحية لمعظم أصحاب المحلات والتجار في سوق قيصرية أربيل.


فقد اعتاد هؤلاء على افتتاح صباحاتهم بتناول هذه الوجبة الدسمة المشبعة بالدهون، ولكن ضمن مراسيم محددة.

فمن يشتهي الباجة التي كان لها مطعمان فقط في تلك السنوات، حيث كان عدد سكان أربيل بحسب بعض شيوخ المدينة لا يتجاوز التسعين ألفا، لا بد أن ينهض الفجر ويصلي الركعتين المفروضتين، ثم يتوجه إلى أحد الحمامات الشعبية في المدينة يغتسل فيه ساعة أو ساعتين، ثم يدخل كالعادة إلى أحد مطعمي الباجة ليتناول وجبة ثقيلة من هذه الأكلة الشعبية قبل أن يفتح محله، ولا ندري الربط بين ارتياد الحمام وتناول هذه الأكلة، ولكن هذه كانت عادة الأربيليين.

ومن لا يتحمل هذه المراسيم اليومية كان يذهب مباشرة دون الحمام إلى أحد مطاعم التشريب ليتناول قدرا كبيرا من هذه الأكلة التي كان الأسطة يغمر خبزين أو أكثر في ماعون كبير ويملئه باللحم والعظم.

وكانت مطاعم التشريب أيضا لا يتجاوز عددها مطعمين أو ثلاثة، من أشهرها «مطعم الحاج عثمان» في سوق القيصرية الذي كان يفتحه منذ ساعات الفجر، ويغلقه مع شروق الشمس، وكانت تلك الأكلة أيضا مقتصرة على الفطور، ويندر أن يطلبها أحد في وجبات الغداء أو العشاء بالمطاعم.

يقول العم عبد القادر حسن وهو رجل في الستينات من عمره وكان له محل لبيع الأقمشة داخل سوق القيصرية تركه اليوم لولده يديره، ولكنه يتردد في بعض الأحيان على هذا المحل: «في الستينات كانت أربيل صغيرة جدا، ولذلك كان عدد مطاعمها قليلا أيضا، ومعظم المحلات كانت متركزة في سوق القيصرية، التي كانت السوق الوحيدة في المدينة، وكان مطعم الحاج عثمان القاورمجي هو المطعم الأشهر في المدينة، لأن المطاعم بالشكل الحالي من حيث تقديم الأرز والمرق كوجبة رئيسية لم تكن منتشرة جدا، كانت مطاعم الباجة والتشريب في تلك السنوات هي الأكثر رواجا، ومعظم روادها من أصحاب الدكاكين في السوق، واليوم عندما أمر بالقرب من مكان ذلك المطعم القديم الذي تحول إلى محل لبيع المواد الزراعية أتحسر على تلك الأيام من الزمن الجميل، ورغم أننا كنا نأكل هذه الوجبات الثقيلة بشكل يومي، ولكن صدقني لم نكن في تلك الفترة نسمع عن الأمراض التي أصبحت منتشرة هذه الأيام والتي باتت تنهش أجساد الجميع مثل، ارتفاع الكولسترول أو أمراض القلب أو السكري والضغط، مع أننا كنا نلتهم جميع تلك الأكلات المشبعة بالدهون واللحوم، وأتعجب هذه الأيام عندما أرى شابا أو رجلا لم يكد يبلغ الأربعين وقد أصيب بجلطة قلبية بسبب هذه الأعراض».

وتابع: «صدقني، معظم أكلات ذلك الزمن كانت تعد بدهون حيوانية وليست نباتية، ولكنني أسمع اليوم بأن أي شيء يؤخذ من الحيوان هو مضر بصحة الإنسان، خصوصا وأنها ترفع من نسبة الكولسترول في الدم».

ويقول الحاج وهاب محمد وهو في السبعين من عمره: «عندما كنت صاحب محل بالقيصرية بتلك السنوات، كنت أرى الحمالين وهم يحملون على ظهورهم كيسا أو كيسين كبيرين من الحنطة أو الشعير ويسيرون بها من سوق العلافين إلى بيوت الناس دون أن يقول أحدهم (آه) أو يشتكي من ألم أو مرض، وأتحدى أي شاب في هذا الزمن أن يستطيع حمل ربع كيس من الحنطة أو الأرز دون أن يتحول غدا إلى طبيب العظام ليعالج له (انزلاقا) أو ألما في الفقرات».

ويقسم العم سيد نوري إنه رأى بعينه رجلا قرويا جاء إلى مطعم للتشريب وغمس ثمانية أرغفة من الخبز في التشريب وتناوله، ثم حرك يديه على بطنه وقال «الحمد لله، ولو أنني لم أشبع بعد»!.

ويقول العم سيد: «الناس في تلك السنوات كانوا فقراء يكدحون ويعملون كل شيء بأيديهم، وكانوا لا يملكون السيارات التي أصبحت اليوم في متناول الجميع، كانت كل روحاتهم وغدواتهم بالمشي، حتى باصات مصلحة الركاب في تلك الفترة كانت خالية دائما، بل إن كثيرين منهم كانوا يسافرون إلى القرى القريبة من أربيل مشيا على الأقدام، ويبدو أن هذا هو العامل الذي أعطاهم الصحة والعافية»، وتابع: «أشتهي كثيرا اليوم أن أتناول التشريب أو على الأقل وجبة من القيمر الكردي الصباحي، ولكن الدكتور منعهما عني بتاتا بسبب ارتفاع نسبة الكولسترول عندي».

ويلعن مجيد حاجي وهو في الخامسة والستين من عمره «القيمر» وهو يجلس في مقهى شعبي يقدم وجبات الصباح من القيمر واللبن والجبن واللبلبي، ويقول: «لعن الله القيمر الذي أوصلني إلى الجلطة القلبية، كنت معتادا على تناوله كل صباح إلى أن ضربتني الجلطة، فمنعني الطبيب من تناولها مطلقا، لذلك تراني أخفف عني بتناول اللبن الأربيللي»، وذكرناه بأن اللبن له نفس المفعول من حيث رفع نسبة الكولسترول على أساس كونه منتج حيواني، فأجاب: «وماذا أفعل إذن، هل أترك كل أنواع الأكل من أجل الكولسترول، دعني يا ابني، الموت يدركنا ولا مفر لنا منه، فلماذا أحرم نفسي من نعم الله».