بعد 10 سنوات .. الخريطة الجينية تعود لنقطة الصفر

ستطرح الخريطة الجينية علاجات جديدة بعد 10 سنوات
ستطرح الخريطة الجينية علاجات جديدة بعد 10 سنوات

بعد عشر سنوات من إعلان الرئيس بيل كلينتون إنجاز أول مسودة للجينوم البشري، لم يجن العلم بعد حصة كبيرة من الفوائد الموعودة.بالنسبة لعلماء الأحياء، طرح الجينوم مفاجآت مثيرة واحدة تلو الأخرى.


ومع ذلك، يبقى الهدف الرئيسي وراء «مشروع الجينوم البشري» البالغ تكلفته 3 مليارات دولار - الذي يرمي للتعرف على الجذور الجينية لأمراض شائعة مثل السرطان والزهايمر، ثم ابتكار علاجات - بعيدا عن المتناول. في الواقع، بعد 10 سنوات من الجهود، يكاد يكون علماء الجينات قد عادوا مجددا إلى نقطة الصفر فيما يخص معرفة المكان الذي ينبغي البحث فيه عن جذور الأمراض الشائعة.

من بين المؤشرات على الاستخدام المحدود للجينوم في الطب حتى الآن اختبار أجري مؤخرا للتكهنات الجينية بأمراض القلب، حيث جمع فريق طبي بقيادة نينا بي.

بايتنر من بريغهام و«المستشفى النسوي» في بوسطن تنويعات جينية بلغ عددها 101 ربطت الإحصاءات بينها وبين أمراض القلب في الكثير من الدراسات التي تضمنت مسحا للجينوم.

إلا أن اتضح أن التنويعات لم تكن ذات قيمة في التوقع بظهور المرض لدى 19 ألف سيدة جرت متابعة حالاتهن على مدار 12 عاما.

وأوضحت دكتورة بايتنر في تقرير نشرته دورية «الجمعية الطبية الأميركية» (American Medical Association) في فبراير (شباط) أن الأسلوب القديم القائم على تتبع التاريخ الصحي للأسرة كان مرشدا أفضل.

خلال إعلانه في 26 يونيو (حزيران) 2009 بإنجاز أول مسودة للجينوم البشري، قال كلينتون إن هذا الحدث «سيحدث ثورة في التشخيص والوقاية من ومعالجة غالبية، إن لم يكن جميع، الأمراض البشرية».

خلال مؤتمر صحافي، أعلن فرانسيس كولينز، الذي كان يتولى حينها مدير شؤون وكالة الجينوم داخل «المعهد الصحي الوطني»، أن التشخيص الجيني للأمراض سينجز في غضون 10 سنوات وسيبدأ طرح علاجات ربما خلال السنوات الخمس اللاحقة لذلك.

وأضاف: «على المدى الأبعد، ربما خلال 15 أو 20 عاما أخرى، سنشهد تحولا كاملا في الطب العلاجي».

من ناحيتها، أنفقت الصناعة الدوائية مليارات الدولارات لسبر أغوار الجينوم وتشرع الآن في طرح الكثير من العقارات المعتمدة على إرشادات مستقاة من الجينوم في الأسواق.

في الوقت الذي لا تزال شركات العقاقير تغدق أموالا طائلة على الأبحاث بمجال الجينوم، بات واضحا أن الاعتبارات الجينية وراء غالبية الأمراض أكثر تعقيدا عما سبق توقعه، وأن الأمر سيستغرق سنوات أكثر بكثير قبل أن تتمكن علاجات جديدة من إحداث تحول على الصعيد الطبي.

من ناحيته، أعرب هارولد فارموس، رئيس «مركز سلوان كيتيرنغ التذكاري للسرطان» في نيويورك، الذي تولى منصب مدير «المعهد الوطني للسرطان»، عن اعتقاده بأن «الجينوم سبيل للتعرف على العلم، وليس الدواء».

المعروف أن العقد الماضي شهد فيضا من الاكتشافات المتعلقة بطفرات في الجينوم البشري مسببة للأمراض. إلا أنه بالنسبة لمعظم الأمراض، تمكنت النتائج من تفسير جزء صغير من مخاطر التعرض للمرض.

وبدأ الخوف يساور بعض العلماء من أن الكثير من التنويعات الجينية المرتبطة بالأمراض ربما لا تعدو كونها أوهاما إحصائية.

يذكر أن «مشروع الجينوم البشري» بدأ عام 1989 بهدف ترتيب، أو تحديد جميع الوحدات الكيماوية البالغ عددها 3 مليارات الموجودة في التركيب الجيني للإنسان، للتعرف على الجذور الجينية للمرض، ثم تطوير العلاجات المناسبة.

مع التوصل إلى الترتيب، كانت الخطوة التالية تحديد التنويعات الجينية التي تزيد مخاطر الإصابة بأمراض شائعة مثل السرطان والسكري.

وكان التفكير آنذاك في تحديد ترتيب كامل الجينوم للمرضى يحمل تكاليف مفرطة. وعليه، أقر «المعهد الصحي الوطني» فكرة اتباع طريق موجز ذكي يتمثل في التركيز على المناطق التي يوجد لدى الكثير من الناس عندها تنويع ما لوحدة الحامض النووي. إلا أنه يبدو أن هذا الطريق المختصر أتى بنتائج دون المستوى المنتظر.

وتمثلت النظرية القائمة وراء الطريق الموجز في أنه نظرا لكون الأمراض الكبرى شائعة، فكذلك سيكون الحال مع التنويعات الجينية المسببة لها.

ورأت النظرية أن مبدأ «الانتقاء الطبيعي» يبقي على الجينوم البشري خاليا من التنويعات التي تضر الصحة قبل أن يبلغ الأطفال، لكنه يفشل في مواجهة تنويعات تضرب الجسم في فترات لاحقة من الحياة، الأمر الذي يسمح لها بأن تصبح شائعة.

عام 2002، شرع «المعهد الصحي الوطني» مشروعا بميزانية 138 مليون دولار يدعى «هاب ماب» بهدف وضع فهرس للتنويعات الشائعة في الجينومات الأوروبية وشرق الآسيوية والأفريقية.

مع توافر هذا الفهرس، دارت المرحلة الثانية حول ما إذا كانت أي من هذه التنويعات أكثر شيوعا في المرضى المصابين بمرض ما عما عليه الحال في الأصحاء.

وتطلبت هذه الدراسات أعدادا هائلة من المرضى ووصلت تكلفة الواحدة منها إلى عدة ملايين من الدولارات.

وأنجزت قرابة 400 دراسة منهم بحلول عام 2009. وتمثلت النتيجة النهائية في أنه باتت الإحصاءات الآن تربط بين مئات التنويعات الجينية المشتركة والكثير من الأمراض.

إلا أنه فيما يتعلق بغالبية الأمراض، اتضح أن التنويعات الجينية المشتركة تفسر مجرد نسبة شديدة الضآلة من المخاطرة الجينية.

ويبدو الآن أكثر احتمالا لأن يكون السبب وراء كل مرض شائع أعداد كبيرة من تنويعات نادرة، وأن تكون هذه التنويعات على درجة من الندرة حالت دون تسجيلها في «هاب ماب».

ويشير المدافعون عن «هاب ماب» والدراسات المتعلقة بالجينوم إلى أن ذلك التوجه يبدو منطقيا لأنه الآن فقط بات البحث عن التنويعات النادرة أمرا غير مكلف، وأن الكثير من التنويعات الشائعة تلعب دورا بالفعل في الإصابة بأمراض.

حتى الآن، جرى الربط بين قرابة 850 موقعا على الجينوم، معظمها قريبة من الجينات، وأمراض شائعة، حسبما أشار إريك إس. لاندر، مدير «برود إنستيتيوت» في كامبريدج بماساتشوستس ورئيس مشروع «هاب ماب». واستطرد بأنه «لذا، لدي اعتقاد قوي بأن النظرية ثبتت صحتها».

إلا أن غالبية المواقع التي جرى ربطها بالأمراض ليست في الجينات - وإنما امتدادات من الحامض النووي ترشد الخلية لامتصاص بروتينات - وليس لها وظيفة بيولوجية معروفة، الأمر الذي دفع علماء جينات للتشكك في أن الربط خاطئ.

في هذا الإطار، كتب جون مكليلان وماري كلير كينغ، وهما عالما جينات بجامعة واشنطن في سياتل في العدد الصادر في 16 أبريل (نيسان) من «جورنال سيل»، أن الكثير من تلك الأمراض «ربما ينشأ من عوامل أخرى بخلاف وجود ارتباط حقيقي بين تنويعات جينية شائعة ومخاطر إصابة بمرض».

وأشارا إلى أن هذا التحول الجديد بين علماء الجينات للنظر إلى التنويعات النادرة باعتبارها سببا كبيرا وراء الأمراض الشائعة يعد «تحولا هائلا في النموذج العام للتفكير حيال الجينات البشرية».

جدير بالذكر أن السبيل الوحيد للتعرف على التنويعات الجينية النادرة هو ترتيب كامل الجينوم الخاص بشخص ما، أو على الأقل جميع مناطق تشفير الجينات.

أصبح من الممكن عمليا اتباع هذا التوجه الآن بسبب تراجع تكلفة ترتيب الجينوم بصورة بالغة، من 500 مليون دولار لأول جينوم بشري أنجز عام 2003 إلى ما بين 5 و10 آلاف دولار، وهي التكلفة المتوقعة للعام القادم.

إلا أنه في الوقت الذي ربما لم تثمر عشر سنوات من الدراسات حول الجينوم نتائج كبرى بمجال الطب، فإن الأمر بالنسبة للعلم الأساسي جاءت مغايرة تماما، حيث أحدثت الأبحاث التي دارت حول الجينوم تحولا بالمجال البيولوجي، مما تمخض عنه سلسلة مستمرة من المفاجآت، كان أولها اكتشاف أن أعداد الجينات البشرية ضئيل على نحو يثير الدهشة مقارنة بتلك الموجودة بالحيوانات الأدنى مثل الدودة المدورة وذبابة الفاكهة.

وتوصل العلماء إلى الدودة المدورة التي تراها العين بالكاد بحاجة إلى 20 ألف جين لإنتاج بروتينات، وهي الأجزاء العاملة من الخلايا، بينما يحتاج الإنسان، الذي ينتمي إلى مرتبة أعلى بكثير في سلم التطور، إلى 21 ألف جين مشفر للبروتين فقط.

أما التفسير الذي بدأ العلماء في الاتفاق حوله أن الإنسان والحيوانات الأخرى تشترك إلى حد كبير في نفس مجموعة الجينات المشفرة للبروتين، لكن المجموعة البشرية منظمة على نحو أكثر تعقيدا بكثير، عبر الاستخدام الدقيق للجزيء المرافق للحامض النووي: «دي إن إيه».

لم يكن من الممكن إجراء غالبية هذه الأبحاث من دون امتلاك ترتيب الجينوم البشري. الآن، يمكن رسم خريطة توضح الموقع الصحيح لأي جين وعنصر التحكم به على الجينوم، الأمر الذي يمكن من الربط بين جميع الأجزاء العاملة من النظام.

الملاحظ أن ترتيب الجينات أيضا ألهم الكثير من التقنيات الجديدة على سبر أغواره، من بينها ترتيب الرقاقات التي مكنت الباحثين من الوصول إلى الكروماتين الغامض والأساسي، وهي آلية بروتينية معقدة تغلف الحامض النووي للجينوم وتسيطر إمكانية الوصول إليه.

كما مكنت البيانات التي أتاحتها «هاب ماب» علماء الجينات من إعادة بناء تاريخ البشر منذ التشتت من أفريقيا من قرابة 50 ألف عام ماضية، وأصبح بمقدورهم تحديد أي من الجينات تحمل بصمات التعرض لانتقاء طبيعي حديثا، الأمر الذي يكشف بدوره التحديات التي يتعين على سكان القارات المختلفة التكيف معها.

مع فك شفرات كامل الجينوم لمزيد من الأفراد، ربما يمكن في نهاية الأمر تفهم جذور الأمراض الجينية.

لكن عند هذه النقطة ليس هناك ما يضمن إمكانية الوصول إلى علاجات فيما بعد ذلك. وإذا كان السبب وراء كل مرض شائع هو مجموعة من التنويعات الجينية النادرة، فإن هذا قد يجعله غير عرضة للتأثر بالعقاقير.