بيتك هو ما توجد فيه احتياجاتك

التذكارات أشياء مبهمة لا قيمة حقيقية لها ولا تذكرك إلا بوقت شرائك لها، وفي الصورة رفوف من الكتب في غرفة الطعام، وهو المكان الذي يجلس فيه المؤلف للقيام بواجباته
التذكارات أشياء مبهمة لا قيمة حقيقية لها ولا تذكرك إلا بوقت شرائك لها، وفي الصورة رفوف من الكتب في غرفة الطعام، وهو المكان الذي يجلس فيه المؤلف للقيام بواجباته

منذ بضعة أسابيع، عدت لمنزلي في نيو أورلينز بعد أكثر من 3 شهور. بوجه عام، هناك أسلوبان يمكنك من خلالهما رؤية منزلك بعين جديدة، أولهما: إقامة حفل حيث تجد نفسك في اللحظة الأخيرة مدركا فجأة لجميع نقاط القصور والعناصر غير الجمالية في منزلك.


أما الأمر الثاني: فهو ترك المنزل لفترة طويلة.بالنسبة للجزء الأكبر من العام، تحول المنزل بالنسبة لي ولأسرتي إلى مكان مضطرب في ستيت ستريت، تتميز غرفه الواحدة تلو الأخرى بقطع من الثريا تتدلى من السقف، ويضم المنزل أيضا غرفتي نوم بالطابق الأعلى، إلى جانب مساحة ثالثة خارج غرفة النوم مباشرة يغطي أرضيتها بساط وتتسم بالهدوء. في نيو أورلينز، تسمى مثل هذه المساحة باسم العلية، بينما في نيويورك تعد شقة.

عندما دخلت إلى منزلنا في أواخر أغسطس، بدا المكان بالنسبة لي جديدا تماما، على الرغم من أنه لم يطرأ عليه أي تغيير عن آخر مرة رأيته فيها.

وبدت الأشياء التي كنت أعدها عزيزة للغاية على نفسي مجرد أشياء لا تحمل أهمية خاصة. وبدت الصور المعلقة على الجدران، بعضها صور لي ولزوجتي وابنتي، كأنها أعمال فنية تنتمي لحقبة أخرى.

ربما يكون لدى الشاعر ديفيد بيرمان تفسير هذا التحول المثير للحيرة، فقد كتب ذات مرة يقول: «التذكارات لا تذكرك سوى بوقت شرائك لها»، مضيفا أنها لا تعدو كونها أشياء مبهمة لا قيمة حقيقية لها، أو ربما أشبه بأبواب كل منها يفضي إلى الماضي.

على مدار 3 سنوات الآن، قضيت وأسرتي الجزء الأكبر من العام في مكان واحد، ثم في الصيف كنا نتوجه إلى مدينة نيويورك والضواحي المحيطة بها.

وعادة ما يكون الأفراد الذين يتصرفون على هذا النحو إما من الأثرياء أو من العاملين بالحقل الأكاديمي. من جانبي، انضممت مؤخرا إلى المجموعة الأخيرة، وانتقلت إلى نيو أورلينز للتدريس في جامعة تيولين.

الملاحظ أن نيو أورلينز، بتميزها الحزين عن باقي المناطق حيث إنها مكان يمكن أن تغمره المياه كلية، تعد مكانا غريبا في الصيف. أتذكر في رواية الكاتب توم بيازا حول إعصار كاترينا، بعنوان «مدينة الملاذ» (سيتي أوف ريفيوج)، يعود أحد أبطال الرواية إلى منزله الذي أغرقته الفيضانات في ميد سيتي ويلتقط ما يبدو له قطعة من المقانق المبللة، ويتضح لاحقا أنها بقايا زوج من قفازات بيضاء ارتدتها والدته في حفل زفافها.

في لحظة ما في الصيف الماضي - ربما كنت حينها أحمل هذه الصورة في ذهني - فكرت في أن بمنزلنا في نيو أورلينز صورة لزوجتي بفستان الزفاف، وتحمل بيديها باقة من الورود جرى ربط أسواقها باستخدام قفازات بيضاء ارتدتها جدتي في زفافها.

في كل صيف كنا نؤجر منزلا مختلفا، مثلا في الصيف الماضي كنا في «ساغ هاربور»، وقد اكتسبنا خبرة كبيرة في إضفاء طابعنا الخاص على المنازل التي نؤجرها. وتعد زوجتي خبيرة في إعادة ترتيب أثاث المنزل تبعا لما يلائم احتياجاتنا. (وتتولى هي التوجيه، بينما يقتصر دوري على تحريك قطع الأثاث).

أما ابنتي البالغة من العمر حاليا 3 أعوام ونصف العام، فتعمد لتحويل كل مكان إلى غرفة للعب. وعندما كانت أصغر، كانت تتطلب عددا أكبر من اللعب. أما الآن، فأصبح يكفيها دمية أرجوانية اللون تستمتع بحملها معها بجانب بضعة أشياء أخرى عشوائية.

بعد ذلك حظينا بالاستقرار وبدأ الصيف. وقد تمكنا من التمتع بما يشبه الجنسية المزدوجة بين نيويورك ونيو أورلينز. وفي كل صيف، يبدو أن هناك أسرة واحدة خاصة نقيم صداقة معها. وعلى الرغم من غرابة هذا الأمر، فإنه يبقى لطيفا.

ومع ذلك، يجب، أو بالأحرى ينبغي، أن يكون للمرء منزل خاص به تماما، ومنزلنا يقع في نيو أورلينز. ولا يرجع قولي هذا إلى أن لنا (أو نستأجر) منزلا هناك، وإنما لحاجاتنا الموجودة هناك.

مثلا، توجد هناك صورة لي ولسيدة عجوز تثير انطباعا قويا لدى أي شخص يشاهد الصورة بأنها جدتي، لكنها ليست كذلك. إنها إدورا ويلتي التي ارتادت وهي في الثمانين من عمرها جامعة كولومبيا حيث كنت أدرس، كي تقرأ على الطلاب.

وقد أوكلت إلي مهمة العمل كحارس شخصي لها. ولحظة التقاط الصورة كنت قد أحضرت لها للتو زجاجة مرطبات، وهو الأمر الذي ربما يفسر الدهشة البادية على وجهي. وبالفعل استمتعت بقراءة كتابات ويلتي، لكن لم أكن مغرما تماما بها، ذلك أنها تنتمي إلى الجنوب، وهو جزء من البلاد لا أعلم عنه شيئا. في الواقع، لقد قضت جزءا كبيرا من الوقت في نيو أورلينز، ولا تزال صورتي معها هناك حتى الآن.

أثناء وجودنا في نيو أورلينز، ربما تمر أسابيع، بل وشهور، من دون التفكير في هذه الصورة. لكن هذا الصيف، عندما كنت مسافرا، شرعت في التفكير بها، متسائلا: أين كان مكانها تحديدا داخل المنزل.

في الحقيقة، دائما ما ينتابني شعور بالتحجر أمام الأعمال الفنية التي لها صلة بي، وهو شعور أقرب ما يكون للشلل.

مع حلول الصيف، وتحرك أغسطس بلا هوادة نحو سبتمبر (أيلول)، عدت جوا إلى نيو أورلينز. وأخبرت ابنتي بأن علي «نسف جميع الأعاصير»، لكنني كنت أعني بذلك «نسف جميع شباك العنكبوت»، قبل أن أعود لإحضارها وزوجتي.

لدى دخولي من باب المنزل، الواقع في ستيت ستريت، إلى الصمت المطبق داخل المنزل، وفي لمح البصر رأيت ملايين التفاصيل من حياتي في الصورة التي كانت عليها منذ 3 شهور ونصف الشهر.

ومن بين أول الأشياء التي وقعت عيناي عليها بعض العملات المعدنية على أحد الأرفف وعلبتان معدنيتان بهما طعام كلاب من أجل كلب الجيران وثريا مؤلفة من 3 طبقات وبها قطع من الشمع المذاب.

الكثير من هذه الأشياء - وهو مصطلح ربما يبدو مهينا لوصف المواد التي حاولت أن تضفي عليها معنى خاصا بك - يحمل أهمية بالنسبة لي. وبالفعل أملك الكثير من مثل هذه الأشياء، فأنا أرغب جمعها (بينما لا ينطبق الأمر ذاته على زوجتي).

ومع ذلك، فوجئت بنفسي ألقي التحية على هذه الأشياء بشعور من الحيرة، فقد سيطر على جزء مني شعور بالإرهاق من وجودها، حيث مارست علي نوعا من الجذب المرتبط بالقمر، فكثيرا ما تجذبني إلى الماضي بعيدا عن الحاضر. لقد كان الأمر أشبه بمقابلة صديق قديم بعد فترة غياب طويلة وهيمنة شعور مريع عليك بأن أحدكما قد تغير لدرجة بات معها من العسير التعرف عليه، وأن الانجذاب السحري القديم بينكما قد ولى.

في لحظة ما، مرت أمام عيني لقطة سريعة لمتجر «شكسبير أند كمباني» القديم وشارع 81. ودارت بخلدي صورة طاولة تعج بالكتب وفوقها صورة لغلاف أول كتاب لي بعنوان «نظرية الإغواء» (سيدكشن ثيري).

من وجهة نظري، شكل دوما «شكسبير أند كمباني» المكتبة الحقيقية لبيع الكتب، وارتبط في ذهني دوما بتصفح عناوين أعداد ضخمة من الكتب تثير بداخلك شعورك بالإعجاب والندم على كتب ترى أنه كان ينبغي أن تقرأها ولم تفعل، أو كان ينبغي أن تؤلفها لكنك كنت شديد الكسل، وسبقك آخر نحو تحقيق ذلك.

وعندما أوشكت هذه المكتبة على إغلاق أبوابها، قلت في نفسي إن التغيير أمر حتمي وإن الحياة ستستمر. لكن في هذه اللحظة ثار شعور بداخلي يحثني على حمل بعض الكتب من على أرفف المكتبة إلى منزلي بأي ثمن. وربما لم يدر بمخيلتي حينها أن الحال سينتهي بي وهذه الكتب في نيو أورلينز. وبالفعل، حملت الكتب وخلقت بمنزلي مناخا شبيها بما كان قائما داخل المكتبة.

لكن الآن، بينما كنت أشاهدها بعد الصيف، لم تبد أمامي سوى مجرد أرفف من الكتب.

وبعد أسبوع عاينت خلاله تبدلا في مشاعري، عدت إلى نيويورك وأحضرت زوجتي وابنتي إلى نيو أورلينز. ولدى وصولنا، انتابني وزوجتي شعور بدهشة بالغة، حيث سارعت ابنتنا على الفور إلى احتضان كل واحدة من الدمى الخاصة بها التي تجاوز عددها 20 دمية.

الآن بعد مرور شهر، عاد المكان مجددا ليبدو في صورته المألوفة لنا كمنزلنا، ولم تعد الصور القديمة ولا أرفف الكتب تبدو جاذبة للانتباه بالنسبة لي، وإن بدت الكتب أحيانا كأنها تؤنبني على إهمالي لها.

وأخيرا، صار المكان جزءا منا مجددا. وقد خلصت من هذه التجربة إلى أن الأشياء والقطع الأثرية مهمة، لكن لا يمكنها أن تغني عن الأحياء. إن الناس هم من يضيفون الحياة والبريق على هذه الأشياء، أما الناس فلا يمكن الاستعاضة عنهم بأي شيء.