إنجازات وقفزات واعدة ضد أمراض السرطان .. تبشر بالأمل

تعتبر الأمراض السرطانية إحدى آفات العصر التي تهدد صحة الإنسان، ولذلك يسعى العلماء حثيثا لإيجاد حلول لحماية البشر من الإصابة بتلك الأمراض، ومن الأبحاث المهمة في ذلك المجال، ما يخص ابتكار لقاحات واقية ضد السرطان، على غرار اللقاحات ضد الأمراض المعدية.


وتناولت النشرة الدورية للمعهد الوطني الأميركي للسرطان (NCI) في أغسطس الماضي، الكثير من النقاط المهمة المتعلقة بأبحاث التلقيح ضد السرطان (Cancer Vaccines)، وآخر ما توصل إليه العلماء والباحثون من إنجازات تحققت وقفزات هائلة تبشر بالأمل القريب في الوقاية والعلاج من تلك الأمراض. ولشرح تلك التقنيات الحديثة، يجب أولا تناول الجهاز المناعي بالتوضيح.

الجهاز المناعي
الجهاز المناعي شبكة معقدة من الأعضاء والأنسجة والخلايا المتخصصة التي تعمل في تناغم تام، للدفاع عن الجسم ضد الغزاة الغرباء، مثل العدوى الجرثومية، وتوفير الحماية من الأضرار التي تسببها الخلايا التالفة والخلايا غير الطبيعية التي تهاجم الجسم، مثل خلايا السرطان.

- كريات المناعة البيضاء: ((Leucocytes، تلعب دورا مهما في الاستجابة المناعية بالجسم، وبعضها خلايا (غير متخصصة) تقوم بمهمة دوريات الاستطلاع للكشف عن الغزاة الأجانب والخلايا غير الطبيعية لتوفير الحماية العامة للجسم، أما النوعيات المتخصصة المعروفة باسم خلايا الليمف Lymphocytes))، فتنقسم إلى عدة أنواع: - خلايا «بي» B (الخلايا البائية): مسؤولة عن إفراز بروتينات مناعية، تسمى الأجسام المضادة (Antibodies)، تقوم بشل حركة أو تدمير الأجسام الغريبة والخلايا غير الطبيعية التي تهاجم الجسم.

- خلايا «تي» T (الخلايا التائية): يطلق عليها الخلايا السامة أو القاتلة (T - Killer cells)، لأنها تقوم بتدمير وقتل الخلايا المصابة أو غير الطبيعية، عن طريق إفراز مواد كيميائية سامة أو حث الخلايا المريضة على الانتحار والموت، مما يعرف علميا باسم «الاستماتة» (Apoptosis).

- الخلايا الداعمة: وتشمل الخلايا المساعدة (T - Helper cells)، والخلايا المتغصنة (Dendritic cells)، وهي تلعب دورا مهما للتأكد من قيام خلايا B وخلايا T بوظائفهما، كما تساعد على تنشيط خلايا T القاتلة، لزيادة قدرتها للتعرف على المخاطر التي تهدد الجسم.

- الذاكرة المناعية: يستطيع الجهاز المناعي تمييز الخلايا الطبيعية بالجسم، لاحتوائها على جزيئات بروتينية تسمى المستضدات الذاتية (Self antigens) للجسم، بينما تحتوي الخلايا الغريبة والخلايا غير الطبيعية على مستضدات مختلفة تسمى المستضدات غير الذاتية (Non - self Antigens)، لذلك عندما تخترق الجراثيم أو الأجسام الغريبة جسم الإنسان، يسارع الجهاز المناعي للتعرف عليها ومحاصرتها للقضاء عليها، ويحتفظ بهذه الذاكرة للدفاع عن الجسم عندما تعاود مهاجمة الجسم مرة أخرى في المستقبل.. وهو ما يعرف باسم « ذاكرة الجهاز المناعي» (Memory of immune system).

ويعتقد بعض الباحثين أن الخلايا السرطانية تنشأ تلقائيا ويتم تدميرها بواسطة الجهاز المناعي بالجسم، وإذا فشل الجهاز المناعي في التعرف على الخلية السرطانية والقضاء عليها يحدث مرض السرطان.

- اللقاحات التقليدية
هي مستحضرات تحفز القدرة الطبيعية للجهاز المناعي بالجسم، وتحتوي عادة على مستضدات (Antigens) من الجراثيم الميتة أو التي تم إضعافها، أو أجزاء من تلك الجراثيم، لا تسبب المرض، لكنها قادرة على استثارة الاستجابة المناعية بالجسم لإفراز الأجسام المضادة (Antibodies)، لمقاومة تلك الجراثيم.

أما اللقاحات المضادة للسرطان، فتشتمل على:

- لقاحات وقائية (Preventive cancer vaccines) تمنع السرطان قبل حدوثه في الأشخاص الأصحاء.

- لقاحات علاجية (Treatment cancer vaccines) تستخدم في علاج السرطان بعد حدوثه.

تتسبب العدوى الميكروبية في حدوث نحو 15 إلى 25 في المائة من إجمالي عدد حالات السرطان التي يتم تشخيصها سنويا في جميع أنحاء العالم. وهذه النسبة أقل في الدول المتقدمة، مقارنة بالدول النامية، لذلك قامت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) بتصنيف الميكروبات التي تتسبب أو تسهم في حدوث السرطان إلى:

الفيروسات:
- فيروس التهاب الكبد «بي» (B) ويتسبب في حدوث سرطان خلايا الكبد Hepatocellular carcinoma)).

- فيروس التهاب الكبد «سي» (C) يتسبب في حدوث سرطان خلايا الكبد (بنسبة أقل من فيروس الكبد B). - فيروسات الورم الحليمي البشري (HPV) (من الأنواع 16 و18) تتسبب في حدوث نحو 70 في المائة من سرطانات عنق الرحم، بينما يتسبب ما لا يقل عن 17 نوعا آخر من الفيروس في حدوث الـ30 في المائة الباقية من سرطان عنق الرحم (Cancer cervix).

- فيروسات الورم الحليمي البشري (HPV) (من الأنواع 16 و18) تتسبب في أنواع أخرى من السرطان، خاصة سرطان المهبل (Vaginal cancer)، والفرج Vulvular cancer))، والعضو الذكري Cancer penis))، وسرطانات البلعوم الفمي (Oropharyngeal cancers).

- فيروسات الورم الحليمي البشري (من الأنواع 6 و11) تتسبب في نحو 90 في المائة من الثأليل التناسلية (Genital warts) التي تصيب الرجال والنساء، لكنها لا تسبب السرطان.

- فيروس إيبشتاين بار (EBV) يتسبب في سرطانات الغدد الليمفاوية (Lymphomas)، وسرطان بيركت (Burkitt lymphoma)، والبلعوم الأنفي (Nasopharyngeal cancer).

- فيروس (HTLV) يتسبب في سرطان الدم الحاد (لوكيميا) من النوع T (T - cell leukemia).

البكتيريا: وتضم البكتيريا المعوية الحلزونية (Helicobacter pylori) تسبب سرطان المعدة.

الطفيليات:

- بلهارسيا المجارى البولية (S. Hematobium) تسبب سرطان المثانة البولية.

- الديدان الكبدية (Opisthorchis viverrini) تسبب سرطان القنوات الصفراوية.

لقاحات ضد السرطان
تستهدف اللقاحات المضادة للسرطان، العوامل المعدية التي تسبب أو تسهم في حدوث السرطان، وتتشابه في عملها مع اللقاحات التقليدية الواقية من الأمراض المعدية الأخرى، مثل الحصبة وشلل الأطفال. فهي تحتوي على مستضدات لأنواع محددة من الجراثيم المعدية، من أجل استثارة الجهاز المناعي للتعرف عليها كأجسام غريبة وتكوين أجسام مضادة لها.

* اللقاح الواقي من فيروس الكبد B
يحتوي على مستضاد بروتيني يشكل الغلاف الخارجي المكون لفيروس الكبد (HBsAg)، بينما يحتوي اللقاح الواقي من فيروسات الورم الحليمي البشري (HPV) على مستضدات تشكل أجزاء من الأنواع المختلفة للفيروس. ونظرا لاحتواء هذه اللقاحات على أجزاء من الفيروسات وليست الفيروسات كاملة، فإن هذه اللقاحات لا تسبب العدوى أو المرض.

تجرى الأبحاث حاليا على استخدام مستضدات مصنعة (Synthetic antigens)، تعتمد على استخدام مستضدات معدلة (Modified antigens)، للمزيد من استثارة الجهاز المناعي والحصول على نتائج أفضل للتلقيح.

لقاحات معتمدة
اللقاحات الواقية من السرطان المعتمدة من وكالة الغذاء والدواء الأميركية (FDA)، حتى الآن، هي نوعان من اللقاحات:

- التطعيم المضاد للفيروس الكبدي (HBV)، اعتمدته FDA منذ عام 1981، كأول تطعيم مضاد للسرطان.

- اللقاح المضاد لفيروس الكبد «بي» (B) المعدل وراثيا (HBV - DNA modified) يستخدم حاليا على نطاق واسع في كل أنحاء العالم، بما فيها الدول العربية، كأحد اللقاحات الإجبارية التي تعطى للأطفال بعد الولادة على ثلاث جرعات عن طريق الحقن (الجرعة الأولى عقب الولادة، والجرعة الثانية بعد شهر، ثم الجرعة الثالثة بعد 6 أشهر، ويتم إعطاء جرعة منشطة بعد نحو 5 سنوات).

اللقاحات المضادة لفيروس الورم الحليمي البشري HPV:
- التطعيم الرباعي Gardasil: يحتوي على جسيمات بروتينية مشابهة لفيروسات الورم الحليمي البشري، من الأنواع (6 و11)، والأنواع (16 و18).. ويمنح الجسم مناعة مضادة للأنواع الأربعة، لهذا يطلق عليه «التطعيم الرباعي».

ويستخدم لوقاية الإناث من سرطان عنق الرحم وبعض سرطانات الفرج والمهبل التي تسببها فيروسات الورم الحليمي البشري (16 و18)، كما يستخدم لوقاية الإناث والذكور من الثأليل التناسلية (Genital warts) التي تسببها فيروسات الورم الحليمي البشري (6 و11). ويسمح باستخدامه للإناث والذكور بين أعمار 9 إلى 26 عاما.

- التطعيم الثنائي Cervarix: يحتوي على جسيمات بروتينية مشابهة لفيروسات الورم الحليمي البشري من الأنواع (16 و18) فقط.. ويمنح الجسم مناعة مضادة لهذين النوعين فقط، لهذا يطلق عليه «التطعيم الثنائي». يستخدم لوقاية الإناث بين سن 10 إلى 26 عاما من سرطان عنق الرحم، الذي تسببه فيروسات الورم الحليمي البشري من الأنواع (16 و18).

اللقاحات المعالجة للسرطان
تستهدف تحفيز الجهاز المناعي الطبيعي للجسم، وتنشيط الخلايا المناعية B وخلايا T القاتلة، وزيادة قدرتها في التعرف على الخلايا السرطانية وتدميرها للقضاء عليها. لذلك فهي تحتوي على مستضدات (Antigens)، لها القدرة على استثارة الاستجابة المناعية المتخصصة المضادة للسرطان، مثل:

- مستضدات من الخلايا السرطانية الميتة أو الخلايا التي تم إضعافها.

- مستضدات معدلة من مواد بروتينية أو كربوهيدراتية أو تركيبات مختلفة من المواد الكربوهيدراتية والبروتينية أو المواد الكربوهيدراتية والدهنية.

- خلايا مناعية معدلة لإفراز المستضدات السرطانية المتخصصة، يتم الحصول عليها من المريض نفسه، ويسمى التطعيم في هذه الحالة (تطعيما ذاتيا)، أو من مريض لآخر ويطلق عليه (تطعيم هجين).

- أجزاء من الأحماض الوراثية (DNA) و(RNA) تحمل التعليمات الوراثية الخاصة بإفراز المستضدات الخاصة بالخلية السرطانية.

والهدف من اللقاحات المعالجة للسرطان:

- إبطاء أو إيقاف عملية نمو الخلايا السرطانية.

- المساعدة على انكماش حجم الورم.

- منع نمو الورم وانتكاسه مرة أخرى.

- التخلص من الخلايا السرطانية التي لم يتم التخلص منها باستخدام وسائل العلاج التقليدية للسرطان.

وتواجه اللقاحات المعالجة للسرطان الكثير من التحديات، مثل:
- الحصول على استجابة مناعية تستهدف الخلايا السرطانية من دون التأثير على خلايا الجسم الأخرى.

- التغلب على الألغاز المتعلقة بمراوغة وتخفي الخلايا السرطانية من الخلايا المناعية بالجسم، مثل: وجود نوعين من المستضدات بالخلايا السرطانية (مستضدات ذاتية ومستضدات مرتبطة بالسرطان (Cancer associated antigens)، والتغييرات الجينية للخلايا السرطانية، وقيام الخلايا السرطانية بإفراز مواد كيميائية تثبط عمل الخلايا المناعية T المضادة للسرطان.

- الحصول على استثارة مناعية كافية لتدمير الخلايا السرطانية من خلال استخدام أنواع مختلفة من الجزيئات المؤازرة (Adjuvant molecules) أكثر الجزيئات المؤازرة المستخدمة حاليا تعتمد على استخدام بروتين يسمى BCG، المستخدم في لقاحات الدرن (السل). - الاحتفاظ بالذاكرة المناعية الكافية لتمكين الجسم من مقاومة السرطان في حالة انتكاسه مرة أخرى.

- اكتشاف المزيد من المستضدات السرطانية لها القدرة على استثارة الجهاز المناعي بصورة أفضل من المستضدات المكتشفة في الوقت الحالي.

لقاحات معالجة السرطان المعتمدة
اعتمدت FDA، في أبريل (نيسان) 2010 نوعا واحدا فقط من اللقاحات العلاجية للسرطان، أطلق عليه اسم (Provenge)، بهدف معالجة بعض حالات سرطان البروستاتا النقيلي المنتشر بالجسم (Metastatic cancer prostate) في بعض الرجال. وقد أشارت نتائج الدراسات الإكلينيكية التي أجريت على اللقاح إلى زيادة معدلات الإبقاء على قيد الحياة لمدة أطول بنحو أربعة أشهر، مقارنة بالعلاج التقليدي.

ويتم تحضير تطعيم Provenge بطريقة خاصة لكل مريض على حدة.. حيث يتم فصل كريات الدم البيضاء من دم المريض، ثم زراعة هذه الخلايا في المختبر مع مستضد بروتيني يسمى (PAP)، يوجد في الغالبية العظمى من الخلايا السرطانية للبروستاتا، إضافة إلى مادة أخرى لاستثارة الخلايا المناعية، من أجل إنتاج مضادات متخصصة للمستضد (PAP). ثم يعاد حقن الخلايا المناعية المستثارة مرة أخرى إلى دم المريض على ثلاث دورات علاجية، يفصل بينها أسبوعان، وفي كل دورة تتبع الإجراءات السابقة نفسها. وتصل تكلفة العلاج إلى نحو 93 ألف دولار أميركي.

أما حول الأنواع الأخرى من اللقاحات المضادة للسرطان تحت الأبحاث، فإن الكثير من الدراسات الإكلينيكية في مراحلها المختلفة تجرى لاختبار مجموعات كبيرة من اللقاحات المعالجة لسرطانات الدم والمثانة والثدي والمخ وعنق الرحم وأورام الغدد الليمفاوية والكلى والورم الميلاني والرئة والبنكرياس والبروستاتا والقولون، بالإضافة إلى لقاحات واقية لسرطانات عنق الرحم والأورام الصلبة (Solid tumors).

فاعلية علاج السرطان
يؤمن الجمع بين اللقاحات المعالجة والعلاجات التقليدية للسرطان هدف علاجه، ويجرى الكثير من الأبحاث الإكلينيكية حاليا للجمع بين اللقاحات المعالجة للسرطان والعلاجات التقليدية، مثل الجراحة والعلاج الكيميائي والإشعاع والعلاجات المناعية الموجهة للخلايا السرطانية. وقد أشار الكثير من الدراسات إلى النتائج التالية:

- زيادة فعالية اللقاحات العلاجية للسرطان في حال الجمع بينها وبين العلاجات التقليدية للسرطان.

- زيادة فعالية العلاجات التقليدية للسرطان عند الجمع بينها وبين اللقاحات العلاجية للسرطان.

- الاستئصال الجراحي لورم كبير الحجم يساعد على زيادة كفاءة وفعالية التطعيم العلاجي للسرطان، حيث تقل معاناة الجهاز المناعي في الجسم بعد استئصال جزء كبير من الورم أو استئصاله كليا.

- دراسة أفضل الطرق للجمع بين اللقاحات العلاجية والعلاج الكيميائي للسرطان، وهل من الأفضل استخدام التطعيم العلاجي قبل أم أثناء أم بعد العلاج الكيميائي؟

آثار اللقاحات الجانبية
اللقاحات الوقائية أو العلاجية للسرطان، التي تم اختبارها حتى الآن، تتميز بمعدلات أمان عالية والقليل من الآثار الجانبية. وقد تختلف الآثار الجانبية بحسب نوع اللقاح، كما تختلف الاستجابة لها من شخص لآخر. وأبرز الآثار الجانبية الواردة في تقارير الأبحاث هي:

- احمرار وتورم والشعور بألم خفيف وحكة جلدية في موضع حقن اللقاح.

- أعراض مشابهة للإنفلونزا، مثل ارتفاع طفيف في درجة الحرارة، الشعور بالبرودة والضعف، عدم الاتزان، الغثيان والقيء، ألم في العضلات، وأحيانا ضيق بالتنفس.

- تأثر قراءات ضغط الدم في بعض الحالات.

- أزمات تنفسية، التهاب الزائدة الدودية، التهاب المفاصل، الذئبة الحمراء (تحدث في حالات قليلة، ويرى الباحثون أنها قد تكون ناتجة عن اللقاح وأحيانا أخرى ليست ناتجة عنه).

- الحساسية لبعض مكونات اللقاح.