بكتيريا معوية قاتلة تجتاح أوروبا .. والطفرات الجرثومية تهدد سلامة الغذاء

 بعد إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور، ومن قبلهما جنون البقر، جاءت عدوى الإصابة ببكتيريا «إي كولاي» القاتلة لتضع قيدا جديدا على الخضراوات كأهم مصدر للغذاء في العالم، وعلى الرغم من أن الخبراء والعلماء يؤكدون أن المرض ينتقل عبر تناول الخضراوات الملوثة، خاصة الخيار والخس والطماطم، فإن السبب الرئيسي للعدوى لا يزال مجهولا حتى الآن.
 
وقد رجح بعض الباحثين أن يكون السبب هو استخدام بعض أنواع السماد الحيواني في التربة التي ينمو فيها الخضار أو عدم غسل الخضراوات جيدا، كما يشتبه البعض في أن يكون لأكل اللحوم النيئة وشرب الحليب الخام دون بسترة كافية والمياه الملوثة دور في نقل العدوى.
 
بينما تبدو أزمة انتشار «الخيار الملوث» في أوروبا قضية صحية بامتياز، فإن أبعادها تتجاوز حدود تفشي مرض بعينه بين مئات وربما آلاف من البشر، لتطال قضية أكثر تعقيدا تتعلق بسلامة الغذاء العالمي وظهور سلالات جديدة من الطفرات الجرثومية المصحوبة بوابل من الأمراض الغريبة واسعة الانتشار، كما تتفوق هذه الطفرات الجرثومية على كل المضادات الحيوية كسلاح رادع طالما تشدق به الإنسان في مقاومة الجراثيم طوال القرن العشرين.
 
سلالة جديدة المعروف أن معظم سلالات (إي كولاي) غير ممرضة، بل إنها تمد الإنسان باحتياجاته الطبيعية من فيتامينات «بي»، فقد سيطرت حالة من الذعر على القارة الأوروبية ودول العالم خلال الأيام القليلة السابقة بعد انتشار بكتيريا «إي كولاي» القاتلة، التي أودت بحياة 18 شخصا وإصابة نحو 2000 حالة حتى يوم الأحد الماضي، وانتشار البكتيريا في نحو 12 دول أوروبية وظهور حالات في الولايات المتحدة.
 
لذلك انهمك العلماء والخبراء في البحث عن سر البكتيريا الغامضة وكانت المفاجأة التي أذهلت خبراء منظمة الصحة العالمية انفراد تلك البكتيريا اللعينة، التي عرفت باسم «O104 H4» بتركيبة فريدة من نوعها؛ فهي تحتوي على جينات من نوعين مختلفين من بكتيريا «إي كولاي»، وأكد الباحثون أن الأمر ربما يستغرق بضعة أشهر لتفهم خصائص هذه السلالة البكتيرية بمزيد من الاستفاضة.
 
وذهب الأمر بأحد الباحثين في مجال علوم ميكروبيولوجيا الخلية إلى حد الاعتقاد بوجود «مخطط إرهابي» وراء انتشار البكتيريا الغريبة القاتلة، التي لم يتم عزلها من قبل، كما شبه باحث آخر ظهور البكتيريا الجديدة قائلا: «انه فيما يبدو أن بكتيريا ضارة أصيبت بعدوى سامة من بكتيريا أكثر ضررا، مما أحدث ضررا نتج عنه هذه البكتيريا الخطيرة».
 
وأرجع العلماء خطورة بكتيريا «إي كولاي القاتلة» إلى قدرتها على إحداث سمية عالية بالجسم، وقدرتها على الالتصاق بخلايا أمعاء المرضى مسببه الإسهال والقيء، وفي الحالات الحادة تتسبب في إحداث تدمير للخلايا الدموية وانطلاق مادة البولينا السامة بالدم، مما يؤدي إلى حدوث اضطرابات حادة يطلق عليها اسم «متلازمة انحلال الدم اليوريمي» Haemolytic uremic syndrome وقد ينتهي الأمر إلى الإصابة بالغيبوبة واعتلال وظائف أعضاء الجسم وربما السكتة الدماغية والوفاة. 
 
إشكالية العلاج
وأكد العلماء أن علاج حالات الإصابة بعدوى «إي كولاي» القاتلة يواجه مشكلتين؛ الأولى تتمثل في عدم تمكنهم من التمييز بين البكتيريا المعوية المفيدة للإنسان والبكتيريا المعوية الضارة، والثانية تتعلق بعدم إمكانية معالجة هذه الحالات بالمضادات الحيوية المألوفة أو المتعارف عليها؛ فعند القيام بمحاولة تدمير البكتيريا الضارة بالمضادات الحيوية تزداد كمية السموم التي تفرزها البكتيريا وتشتد أعراض المرض، لذا فإن المضادات الحيوية تؤدي إلى نتائج عكسية تماما، ولا يمكن أن تكون المضادات الحيوية خيارا في العلاج، خاصة في المراحل المتقدمة للإصابة، خوفا من أن يؤدي موت البكتيريا إلى إطلاق مواد سامة داخل الجسم تزيد من تفاقم المرض.
 
لذلك يسعى الأطباء إلى تخفيف أعراض المرض بحقن المرضى بالمحاليل لتعويض السوائل التي يفقدونها بسبب الإسهال، أو إجراء غسيل كلوي في حالة ثبوت تدهور وظائف الكلى، كما توصي الجهات العلمية بضرورة اتباع قواعد النظافة الصارمة وضرورة غسل الخضراوات والفاكهة قبل أكلها للوقاية، أو تعقيم السكاكين والأدوات المستخدمة في إعداد الطعام وطهيه جيدا أو تسخينها جيدا قبل الاستعمال لمدة لا تقل عن 10 دقائق بحرارة 70 درجة مئوية، لأن ذلك يساعد على قتل البكتيريا سواء للخضراوات أو اللحوم.
 
تسمم الغذاء 
الجدير بالذكر أن الكثير من دول العالم شهدت من قبل تفشي الإصابة الناجمة عن التسمم الغذائي البكتيري المماثلة، ففي عام 1996 أصيب في اليابان نحو 9000 شخص، وتوفي 9 بالتسمم نتيجة تناول الفجل الملوث ببكتيريا «إي كولاي»، كما ظهرت تفشيات كثيرة في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة ولاية واشنطن عام 1993، بسبب تناول اللحم المفروم غير المشوي بشكل عام وعدم احترام سلسلة التغليف المتعارف عليها صحيا.
 
كما ظهر أيضا في ولاية أونتاريو عام 2000 وباء بسبب تلوث مياه الشرب بعد فيضانات كبيرة، كما ضرب الوباء فرنسا أكثر من مرة.. ففي عام 2005، انتشر الوباء في جنوب غربي البلاد، وكان المسؤول عن التسمم الغذائي تناول اللحوم المفرومة غير المشوية، كما تفشى الوباء في كوريا إبان تسعينات القرن الماضي, جراء تناول الوجبات السريعة، مما أدى إلى وفاة أربعة أشخاص وإصابة أكثر من 700 آخرين.
 
لكن الباحثين أكدوا أن موجة الإصابة الحالية أكبر بواقع عشر مرات من موجات الإصابات السابقة، ويعتقدون أنها أكثر الموجات فتكا بالبشر في العالم حتى الآن، نظرا لأن سلالة الإصابة المنتشرة في الوقت الراهن ذات قدرة على الربط بين المادة السامة ولاصقة نادرة لا توجد إلا في أمعاء الأطفال في الدول الفقيرة في العالم.
 
والجدير بالذكر أن بكتيريا «إي كولاي» هي أحد أنواع البكتيريا المسببة للتسمم الغذائي البكتيري، المسؤول عن حدوثه مجموعة كبيرة من البكتيريا أو سمومها، مثل بكتيريا «سالمونيلا» أو بكتيريا «كوليستريديا» المسببة للتسمم الغذائي المعروف باسم «بوتيوليزم» أو التسمم بالميكروب المكور العنقودى (ساتافيلوكوكاس)، ويمثل التسمم الغذائي البكتيري السبب الرئيسي في أكثر من 80 في المائة من حالات التسمم الغذائي، الذي يعرف بأنه حالة مرضية مفاجئة تظهر أعراضها خلال مدة تتراوح مابين عدة ساعات إلى عدة أيام على شخص أو عدة أشخاص عقب تناولهم أطعمة أو مشروبات ملوثة بالبكتيريا أو السموم التي تنتجها، أو بأنواع مختلفة من الفيروسات والطفيليات ومواد كيميائية سامة.
 
وتشمل الأعراض التقيؤ والإسهال والمغص وارتفاعا في درجة الحرارة، وفي بعض الحالات الوفاة.
 
حبوب بقول مستنبتة
قد تكون سبب البكتيريا القاتلة لا يزال السبب وراء انتشار البكتيريا المعوية القاتلة مجهولا، ويبدو أن النظرية السابقة بوجودها في الخيار الإسباني قد انحسرت، إذ أعلنت السلطات الألمانية مساء يوم الأحد الماضي أن هناك حبوب بقول مستنبتة في مزرعة في شمال ألمانيا. وتستورد المزرعة حبوب البقول من مختلف دول العالم وتقوم باستنباتها، حيث تتبرعم وتنبت لها خيوط طويلة. وتقدم حبوب البقول هذه مع أطباق السلاطة عادة.
 
ونقلت وكالات الأنباء عن خيرت ليندرمان، وزير الزراعة في ولاية ساكسونيا السفلى، أن هناك أدلة تشير إلى أن مصدر الإصابة المحتمل مزرعة في جنوب هامبورغ. وقامت السلطات بإغلاقها، على الرغم من عدم التأكد بشكل قاطع من مصدر الإصابة.
 
بكتيريا «ميرسا» تضع المضادات الحيوية في دائرة الخطر 
يؤكد العلماء أن الطفرات الجرثومية وظهور سلالات من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، المعروفة باسم «ميرسا» MRSA، أصبحت تهدد صحة البشرية؛ ففي دراسة نشرتها مجلة «Lancet» للأمراض المعدية خلال عام 2010، كشف العلماء عن جين أطلق عليه اسم «نيودلهي»، تم رصده في الكثير من المستشفيات في الهند وباكستان، ويمكنه الالتصاق بأي نوع من البكتيريا وتغيير خواصها وجعلها أكثر مقاومة لأي مضاد حيوي متاح حاليا.
 
وأكد العلماء أن «جين نيودلهي» أدى إلى تحور أنواع من البكتيريا كان يسهل علاجها من قبل بالمضادات الحيوية المتعارف عليها، مثل «بكتيريا إي كولاي» التي تعيش في الأمعاء، وتؤدي للإصابة بالتسمم الغذائي. كما تسبب الجين في تحور أنواع أخرى من البكتيريا مثل «بكتيريا كليبسيلا نومونيا» التي تصيب الجهاز التنفسي.
 
ومؤخرا، كشف الباحثون بكلية الطب البيطري بجامعة كامبريدج عن اكتشاف سلالة جديدة من الميكروب المكور العنقودي Staphylococcus المقاوم للمضادات الحيوية، تلوث ضروع الأبقار ولا يمكن الكشف عنها باستخدام الطرق التقليدية.
 
وكانت المفاجأة اكتشاف نفس السلالة في عينات من البشر، الأمر الذي أثار اهتمام العلماء لإعادة النظر في خطوات متعلقة بعمليات بسترة الحليب وطرق الكشف عن بكتيريا «ميرسا» التي يمكن أن تلوث الألبان ومنتجاتها، خوفا من انتشارها بصورة وبائية تهدد صحة الإنسان وسلامة الغذاء.