«بولترز» مطعم يتكئ على ضفة نهر التيمز وأطباقه تزيد المشهد سحرا

 عبر طريق ضيق تصطف على جانبيه الأشجار العملاقة الوارفة، وعند منعطف قاس ومدخل خجول باتجاه نهر التيمز في منطقة مايدنهيد القريبة من مدينة ويندسر الملكية السياحية، تصل إلى مطعم يختبئ بين الخضرة والماء، حيث تنتهي عنده الطريق وتبدأ منه المغامرة، مغامرة الأكل بالطبع، فالمأكولات، وكما تشير لائحة الطعام المعلقة عند المدخل الرئيسي، صنفت بالمأكولات البريطانية المعاصرة وهذه مغامرة بحد ذاتها، أولا لأنه من المعروف، أو بالأحرى من المتداول والشائع بأن بريطانيا لا تشتهر بمطبخها، كما أن أطباقها الأصلية التقليدية لا تتعدى السمك والبطاطس، والبطاطس الملقبة بـ «الجاكيت بوتيتو» وبالطبع طبق الدجاج المشوي بالفرن الذي تقوم العائلات بتحضيره في المنازل أيام الآحاد «صانداي روست».
 
ولكن الحق يقال، بأن الشيف دانيال وودهاوس الطاهي الرئيسي في مطعم «بولترز» في مايدنهيد نجح في خلق مطبخ إنجليزي يفتخر به، ووقع خيار الطاهي على طبق أول مؤلف من سمك السلمون الذي يقوم وودهاوس بتدخينه على طريقته الخاصة في مطبخه ويتم استيراده من اسكوتلندا وأضاف إليه صلصة المستردة وكريمة العشب، فكانت النتيجة مزيجا من النكهات المتناغمة، كما أن مذاق السمك مميز جدا، ويشرح هنا وودهاوس السبب كونه يستطيع التحكم بمدة التدخين والنوعية ليتمكن من الحصول على المذاق الذي يريده والذي يتناسب مع باقي المكونات. أما بالنسبة للطبق الرئيسي فهو عبارة عن قطعة من لحم كتف الخروف مع البطاطس الذائبة وكرنب السافوي مع الزعفران وصلصة الكمون.
 
هنا لا بد من التنويه بأن طريقة طهي اللحم لا يمكن وصفها إلا بالإبداع، فالمذاق غني جدا لأنه تم خلط عدة نكهات قوية مع بعضها البعض ولكن بطريقة متجانسة كما أن اللحم طري جدا فيذوب في الفم، كما أن الكمون نجح في إضفاء نكهة غريبة على الطبق، وهذه النكهة لا تجدها عادة في معايير الطبخ الغربية بشكل عام والإنجليزية بشكل خاص، ويقول وودهاوس بأن سر نكهة اللحم هي الطهي لمدة تزيد على 24 ساعة على نار خافتة جدا، ويقول الطاهي الشاب إن سر نجاح أي طبق هو البال الطويل والابتكار والتجربة والخبرة.
 
دانيال وودهاوس، على الرغم من سنه الصغيرة فهو يملك باعا طويلا في مجال الطهي، إذ عمل إلى جانب أهم الأسماء في عالم الطهي مثل الطاهي ميشيل رو في مطعمه «رو فاين داينينغ» في لندن والشيف توم أيكنز في لندن أيضا وكان الذراع اليمنى في مطعم «ماكلايمينتس»، إضافة إلى أسماء كبرى أخرى في لندن وخارجها، ويقول وودهاوس إن عمله في «بولترز» قدم له الكثير، لأنه كان بمثابة منصة وقاعدة ساعدتاه في إعطائه القرار في الإبداع والابتكار، وقد انضم وودهاوس إلى مطعم «بولترز» عندما أعيد افتتاحه بعد عملية تجديد وترميم زادت قيمتها على مليونين ونصف مليون جنيه إسترليني (نحو 4 ملايين دولار أميركي)، لينضم المطعم إلى قافلة أهم المطاعم التي تقع جميعها في منطقة مايدنهيد وجوارها، مثل مطعم «ذا فات داك» لصاحبه الطاهي هيستون بلومينتال في «براي» أو «ووتر سايد إن» لصاحبه الشيف المخضرم ميشال رو، وكلا المطعمين حائز على نجوم ميشلين للتميز، ونظرا لطريقة تقديم الأطباق في مطعم «بولترز» وبحسب نوعية الطعام والجو العام في المطعم والديكور يمكن الجزم والقول بأن المطعم قد ينال نصيبه لينضم إلى قافلة عناوين الأكل المميزة في البلاد.
 
نوعية المكونات المستعملة في الأطباق أكثر من طازجة، إذ يحرص وودهاوس على استخدام المكونات في موسمها الأصلي، كما يحرص على خبز الخبز بأصنافه العديدة والمنوعة بنفسه في مطعمه وكل هذه الصفات تجعل من الشيف وودهاوس مشروعا ناجحا بطريق الانتشار إلى أبعد من منطقة مايدنهيد وضواحيها.
 
وعندما جاء وقت الحلوى اختار وودهاوس لنا طبق الكمثرى المطبوخ بالسكر مع بهارات «الكاسوناد» ورغوة الكمثرى، النتيجة أكثر من رائعة ولو لم أكن من محبي الحلوى، وبحسب وودهاوس فإن تحضير أي طبق من الحلوى يحتم استخدام الكميات اللازمة من السكر خاصة عندما يكون الطبق يضم في مكوناته الفاكهة التي تكون غنية بالسكر بشكل طبيعي.
 
وعندما سؤال الشيف وودهاوس عن كيفية تفاديه تكرار نفسه في الأطباق رد بالقول بأن الموسم هو سيد الموقف، فمن الضروري أن يكون الطاهي خلاقا إنما المواد التي يستعملها تساعد أي طاهٍ على تقوية طاقاته الإبداعية، غير أن الشطارة هنا تكمن في كيفية استعمال تلك المواد، خاصة إذا كانت غالية الثمن أو من الصعب الحصول عليها خارج موسمها.
 
وعن المطبخ الإنجليزي يقول وودهاوس، بأن صيته يظلمه، لأنه في الواقع هناك عدة أطباق بريطانية ولكن المشكلة فيها هي أنها غير مسوقة بشكل جيد كما أنها تفتقر لطريقة التقديم المثيرة، فالطهي ليس مجرد مزج المكونات في قدر كبير إنما هو أبعد من ذلك، لأنه من المهم جدا إعطاء أي أكلة حقها من خلال طريقة التقديم.
 
ويساعد المطعم بموقعه المميز أيضا في نجاح عمل وودهاوس، فلا يمكن أن تتغاضى عن روعة وجمال موقع المطعم فهو يقع على كتف النهر مباشرة، ويطل على جسر مايدنهيد ويتمع بتراس كبير يستعمل أيام الصيف، صالة الأكل الرئيسية تقع في الطابق الأرضي، وتتميز بجدرانها الزجاجية المطلة من جميع زواياها على النهر والخضرة، وتم اختيار الديكور بعناية من خلال استخدام الألوان الهادئة لتحافظ على انسيابية المشهد الخارجي مع إضافة بعض الألوان في بعض الكراسي المميزة باستعمال أكثر من نوع من القماش واللون فيها. ويمتد الديكور المريح من الصالة الرئيسية إلى الطابق العلوي المطل أيضا على النهر وفيه يمكنك تناول المشروب وتناول المأكولات الخفيفة.
 
في العديد من المطاعم يقف الزبون حائرا وهو يمسك لائحة الطعام، وهذه النقطة تؤثر سلبا على أي مطعم مهما كان ناجحا، لكن «بولترز» عرف كيف يجذب الزبون بلائحة طعامه البسيطة والمحددة، وتم تفسير كل المكونات في الأطباق بشكل جيد وواضح، وإذا لم تكن اللائحة تجاوب على كل أسئلتك فلا توفر خبرة الندل في المطعم الذين يتميزون بوجه بشوش ويعرفون الأطباق عن ظهر قلب، وهذه النقطة أيضا هي مفتاح نجاح أي مطعم مهما علا شأنه، لأنه ليس أسوأ من نادل عاجز عن التفسير الواضح للطبق. النادل هو صلة الوصل بين الزبون والطاهي، وهنا تكمن البراعة.
 
وأخيرا يمكن القول بأن مطعم «بولترز» وعلى رأسه الشيف دانيال وودهاوس المعروف بـ «دان»، أضاف عنوانا مميزا على خريطة مايدنهيد الشهيرة، كونها تضم أقدم سد في بريطانيا، وموطن الصحافي ريتشارد ديمبلبي، واليوم يمكن أن نقول بأن «جزيرة بولترز» شهيرة أيضا بمطعم «بولترز» الذي لا يمكن مقارنته إلا مع أهم مطاعم بريطانيا الحائزة على جوائز ونجوم، نسبة للنوعية ونشاط الطاهي وإبداعه.