لاغرفيلد يوقف حركة السير في أول عروضه بلندن

إنه أول عرض للمصمم، الذي يطلق عليه في أوساط الموضة لقب «القيصر»، في لندن، ويا لها من بداية، فهي لا شك ستتوثق اكثر إذا كان ما رأيناه أول أمس من احتفالات وأزياء هو المقياس. فقد أوقفت حركة السير في منطقة فكتوريا، جنوب غربي لندن، بعد إغلاق العديد من الطرق المؤدية إلى مكان العرض، بغرض تخصيصها لمرور سيارات الشخصيات المهمة. وهذا بدوره أثار فضول سكان المنطقة الذين احتشدوا لساعات في طوابير، متحدين المطر والبرد، لمشاهدة الحركة العجيبة التي لم تعرفها منطقتهم من قبل، وليلقوا ولو نظرة سريعة وعن بعد على مصمم دار شانيل، كارل لاغرفيلد، الذي لا يمكن ان تخطئه العين بشعره الأبيض المشدود إلى الوراء على شكل ذيل حصان ونظاراته السوداء التي يستعملها نهارا وليلا.


أما المشاهير بداخل البناية المكونة من ثلاثة طوابق، فحدّث ولا حرج، إذ لم يتفوق عليه سوى عدد حقائب شانيل المبطنة التي حملتها الحاضرات. فقد كانت هناك المغنية الشابة ليلي آلن، وتاندي نيوتن، وأميرة موناكو، شارلوت كاسيراغي، والعارضات ناعومي كامبل، وكلوديا شيفر، وياسمين لوبون وغيرهن.

ويبدو واضحا ان مصمم دار شانيل اراد ان تكون أول تجربة له في لندن قوية وأن تترك صدى لا ينسى بسرعة، وكان له ما أراد. فقد جاء المعرض الذي استعرض فيه أعماله الفوتوغرافية، والتي غلب عليها الأبيض والأسود، ماركته المسجلة، مميزا، كذلك الحلويات والمشروبات التي وزعها على صوان تحمل علامة شانيل، بل حتى الكراسي حرص ان يضع عليها لوغو الدار، الأزياء فرنسية وتسريحات الشعر مستوحاة من المغنية إيمي واينهاوسوكأنه يريد ان يرسخ فكرة أننا في حضرة «القيصر». لكن ورغم فرنسية دار شانيل، فإن الشعور الذي يخرج منه المشاهد في هذه الليلة، هو أن لاغرفيلد جاء ليعانق لندن بالأحضان، إجلالا لابتكاراتها وفنيتها، من جهة، واحتراما لمكانتها التجارية من جهة ثانية. فمما لا شك فيه أنها اصبحت قوة تجارية ومركز موضة لا يستهان به في السنوات الأخيرة، بدليل ان العديد من المصممين العالميين افتتحوا فيها محلات خاصة بهم، كما ان اسبوعها للموضة اصبح يستقطب شخصيات بارزة بعد سنوات من التجاهل والإهمال، أو إن صح القول، التكبر عليها.

تشكيلة شانيل أول من أمس، ولدت وصنعت في باريس، لكنها أعطت الإحساس وكأنها مسكونة ببعض من جنون لندن، ليس في التصميم أو الأسلوب، فهما كانا فرنسيين قلبا وقالبا، ولكن في الموسيقى وماكياج العارضات وتسريحات شعرهن، التي استلهمت من تسريحة وماكياج المغنية البريطانية، أيمي واينهاوس. فهذه الأخيرة، بكل مشاكلها الشخصية وإدمانها، صاحبة موهبة فذة في عالم الموسيقى تتحدى كل الأعراف، ومظهر خاص جدا، قد يبدو كاريكاتوريا للبعض، لكنه يلهم البعض الآخر، ومنهم لاغرفيلد، الذي عرف عنه حبه للموسيقى بكل انواعها.

ابتدأ العرض بنغمات موسيقية حية تجمع بين الروك آند رول الخفيف والبوب، غنتها العارضة، إيرينا لازارينو، التي صادقت لفترة قصيرة في بداية العام، المغني بيت دهورتي من فريق بايبي شاملز، بعد انفصاله عن العارضة كايت موس. لازارينو كانت بدورها تلبس فستانا من شانيل، وربما كان هذا هو المؤشر على المزيج الباريسي اللندني، الذي توالى من خلال قماش التارتان، القبعات العالية باستدارة، المأخوذة من قبعات «الجنتلمان» البريطاني، وحقائب يد صغيرة رسم عليها العلم البريطاني، لكن فيما عدا هذا فقد كانت الأزياء تتميز بكل عناصر الكلاسيكية العصرية الفرنسية التي تميزت بها شانيل.

بل يمكن القول انها تشكيلة يمكن تسويقها بسهولة اكبر للشريحة التي وجهها لها، وهي شريحة المرأة الناضجة التي لها إمكانيات شرائية عالية، كونها تختلف عما قدمه في المواسم الأخيرة من تصميمات موجهة للشابات، من حيث استعماله الجينز الطويل والقصير، وركز فيها اكثر على التفصيل الراقي مع تفاصيل لا يتقنها سواه. تم عرض التشكيلة مرتين في يوم واحد. المرة الاولى بعد الظهر والثانية مساء، وكأنه لم يرد ان يحرم اكبر عدد من الناس من الاستمتاع بها. وتكمن أهميتها ايضا في كونها غير موجهة لموسم معين، رغم أن ألوانها وخاماتها الصوفية تعطي الانطباع بأنها للخريف والشتاء.

من المجموعة التي عرضها لاغرفيلد لدار شانيل أول من أمس بلندن

لكن لاغرفيلد ومنذ فترة دأب على طرح هذا النوع من التشكيلات التي لا يمكن القول انها من نوع الملابس الجاهزة أو من نوع الأزياء الراقية، لكنها تجمع بين الاثنين، وهو ما يطلق عليه البعض «الكوتير الجاهزة»، وتهدف من ورائها دار شانيل إهداء المرأة قطعا خاصة جدا ومحدودة وفي الوقت ذاته مفصلة بشكل يحاكي الأزياء الراقية، لكنها جاهزة لا تحتاج إلى تفصيل وجلسات متعددة لضبط المقاس.

كما تحيي الدار من خلالها الحرفيين الذين أشرفوا على تنفيذها لتأتي بشكلها المغري، ومن هنا جاء اسم «ميزون دار» (بيت الفن) الذي اطلق على هذه المجموعة، وأصبحت من تقاليد الدار في السنوات الأخيرة الاحتفاء بها في العديد من المناسبات، حتى وإن تطلب الأمر تنظيم عروض خاصة تنتقل بين عواصم مختلفة لاستعراض قدرات حرفييها الفنية. فبعد ان كنا نتوقع من أي دار ازياء اربعة عروض في العام الماضي، اثنين للملابس الجاهزة واثنين للأزياء الراقية، اصبح هناك عرض لما يعرف بـ«الكروز» وآخر لـ«ما قبل التشكيلات» (بري كوليكشن)، والبقية لا شك آتية في ظل الموجة الاستهلاكية التي يعرفها مجال الأزياء وسرعة دوران رحى الموضة، التي باتت تفوق سرعة تغير الفصول.

ما يميز هذه التشكيلة أيضا أنها ليست بكلاسيكية قطع الدار التي عودنا عليها، والعديد من الزخرفات والترصيعات المطرزة أو الملصقة عليها قد تكون كبيرة اكثر من اللزوم، أو متوهجة بالنسبة لذوق سيدات شانيل وزبوناتها المخلصات، لكن اسم شانيل وحده يكفي لأن يسحر، ويتحول الكبير والمتوهج لا إلى مقبول، فحسب، بل إلى مغر وجذاب تنجذب له العين، وتتوق له النفس وتصرف من أجله الآلاف من دون تردد أو عقدة ذنب.

وهكذا أكد لاغرفيلد مرة أخرى  أخرى انه عبقري في ترجمة روح العصر، وعبقري في الاستفادة من الحرفيين الذين تتعامل معهم الدار واصبحوا ينضوون تحت مظلتها منذ عام 2002، وهم 6 من أقدم الورش العائلية التي ليس لديها ورثة، وكان مصير بعضها سيبقى مجهولا لولا تدخله لضمها إلى دار شانيل. هذه الورش هي: ماسارو، مصمم الأحذية، ولوماري مصمم الزهور والريش، وميشيل المتخصص في صناعة القبعات، وديسرو في صناعة الازرار وغوسن في صناعة الذهب والفضة، ولوساج في التطريز.

وقد شبه لاغرفيلد في مناسبات عديدة هذه الورش بأنها مثل «الاقمار الصناعية» التابعة لشانيل. ودليلا على تقديره لدورها دأب على تصميم مجموعات صغيرة من الملابس الغرض منها اساسا الاحتفاء بخبرات وامكانيات أصحابها والايادي الناعمة التي تنفذ أحلام المصممين وتنقل رسوماتهم ورؤيتهم من الورق إلى القماش. والجدير بالذكر ان وجود كل هذه الخبرات في باريس يسمح للمصممين بتحقيق رؤاهم بطريقة غير متوفرة في أي مكان اخر في العالم. فعلى سبيل المثال، من الامور الاعتيادية ان يرسل ميشيل قبعة الى ليساج لتطريزها ثم الى لوميري لوضع الزهور والريش عليها والعكس صحيح ايضا. وهذا هو ما أراد لاغرفيلد من خلال دار شانيل ان يقوله لنا في هذه التشكيلة.