الإجازة الصيفية .. لماذا فقدت بريقها العائلي وأصبحت صراعا بين الأبناء والآباء؟

مع الانتشار الواسع لوسائل التسلية الحديثة أصبح الأولاد يفضلون قضاءالاجازة مع شلتهم الخاصة من الأصدقاء، حتى يكونوا على حريتهم، غير مقيدين بالأعراف والتقاليد التي تفرضها العائلة
مع الانتشار الواسع لوسائل التسلية الحديثة أصبح الأولاد يفضلون قضاءالاجازة مع شلتهم الخاصة من الأصدقاء، حتى يكونوا على حريتهم، غير مقيدين بالأعراف والتقاليد التي تفرضها العائلة

منذ سنوات كانت أغلب الأسر تنتظر الإجازة الصيفية بفارغ الصبر، وتعد لها العدة للاستمتاع بلم شمل العائلة على مائدة الشاطئ، والترويح عن النفس وسط النسائم العليلة وتلاطم الأمواج ومنظر المياه المترامية على مدى البصر.


كان الجميع أيضا يشعرون بعد انقضاء الإجازة بأنهم شحذوا طاقاتهم وتخلصوا من متاعب العمل والدراسة وضغوط الحياة.

لكن شتان بين الأمس واليوم، فمع الانتشار الواسع لوسائل التسلية الحديثة على الإنترنت وفي المقاهي ونوادي الفيديو وغيرها، تبدل مفهوم الإجازة، وفقد معناه العائلي.

أصبح الأولاد يفضلون قضاءها مع شلتهم الخاصة من الأصدقاء، حتى يكونوا على حريتهم، غير مقيدين بالأعراف والتقاليد التي تفرضها العائلة، وبخاصة سلطة الأب والأم.

هذا المعنى، يشير إليه بوضوح عادل علي، طالب جامعي، بقوله: «إنه برغم حبه لوالده ووالدته ولأفراد أسرته التي تضم أخا كبيرا وأختين يصغرانه ببضع سنوات، فإنه يفضل أن يقضي إجازته مع أصدقائه»، ويشرح أنه معهم يشعر بالحرية والانطلاق: «والدي رجل صارم وحازم، ليس فقط بحكم عمله كرجل قانون، وإنما هذه طبيعة ورثها عن جدي، الذي كان لا يعجبه العجب، يتعاطى الحياة بالشوكة والسكينة، وعلى طبق من فضة .. وأنا بصراحة أريد أن اقضي إجازتي بلا وصاية أو مراقبة، وكأنها حصة في المدرسة.

حتى حين ألعب (الشطرنج) مع والدي على الشاطئ أحس بأنني في معركة حربية، وأنني أمام خصم عنيد، لا يقبل الهزيمة بروح رياضية، بل يغضب، ويتناثر هذا الغضب على الجميع، لذلك غالبا ما أستسلم له وأتظاهر بالخسارة، حتى تمر المعركة بسلام».

وعلى عكس عادل الذي يتفنن في الهروب من قضاء الإجازة مع أسرته تفضل منى إبراهيم، مهندسة معمارية شابة في الخامسة والعشرين، قضاء الإجازة في كنف العائلة، فهي تشعر معها بالأمان، كما تعتبر الإجازة فرصة طيبة لتبادل الأفكار والرؤى حول موضوعات شخصية حساسة، قلما تحظى بمناقشة موضوعية في جو البيت المشحون بالتوتر والضغوط.

تقول: «يتحول أبي خلال الإجازة إلى شخص آخر، يلعب معنا ويجري ويقفز في الماء كالطفل. وفي إجازة العام الماضي استطعت أن أنتزع موافقته على العمل في شركة خاصة، وترك عملي غير المجدي ماديا في الحكومة.

وفي إجازة هذا العام سأحاول انتزاع موافقته على زواجي بسرعة من خطيبي، والسفر معه في بعثة لأميركا لاستكمال دراسته العليا».

وترى منى أنه برغم ظروف الحياة الصعبة، إلا أنه بقليل من التنظيم والتفاهم، يمكن لأي أسرة أن تستمتع بالإجازة، سواء بشكل فردي، أو في إطار جماعي من خلال شركات السياحة الخاصة.

وتتحسر زينات أبو الليل، مدرسة محالة على المعاش، وأم لثلاثة أبناء كبار على إجازات أيام زمان، بتعليقها: «زمان كانت الدنيا بسيطة، وكنا ننتظر الإجازة الصيفية بفرح وكأنها عيد، وكانت الإسكندرية مصيفنا المفضل، لكن مع الزيادة الرهيبة في عدد السكان ازدحمت الإسكندرية وبقية المصايف ذات الطابع الشعبي، بل أصبح هناك مصايف الخمس والسبع نجوم، في القرى والمدن السياحية الخاصة، وأصبح ينظر للإجازة من مفهوم طبقي بين الأثرياء والفقراء».

وتلفت زينات إلى خطورة هذا المفهوم، مشيرة إلى أن المصايف الشعبية هي الأخرى لم تسلم من هذا المفهوم، حيث قسمت الشواطئ فيها إلى شواطئ خاصة بتذاكر دخول، وعلى بعد خطوات منها شواطئ شعبية للعامة من دون تذاكر.

والفرق بينهما لا ينحصر في زحام شاطئ عن آخر فحسب، بل في تدني منظومة الخدمات، في الشواطئ الشعبية، وهو ما جعل الإجازة عبئا في حد ذاته، حتى أن الكثير من الأسر استغنت عنها، واكتفت بحمامات السباحة في النوادي الرياضية، أو برحلات اليوم الواحد. كل هذا أثر على الطابع العائلي للإجازة.

ومع قلة الإمكانيات المادية، أصبح أفراد الأسرة، كل يفكر في قضاء الإجازة بطريقته الخاصة.

توضح: «أولادي كبروا واثنان منهم متزوجان، ولديهما أولاد لا يفضلون الإجازة العائلية، لأنها، كما يقول ابني الأصغر الذي لا يزال طالبا جامعيا، إنها إجازة (عواجيزي)، ستحاصرني فيها سندوتشات أمي، وأطباقها الكلاسيكية المألوفة».

وبنبرة أسى يقول طارق حسان، موظف بإحدى الهيئات الحكومية: «إجازة؟ كيف؟ ياريت، أنا على مدى خمس سنوات أمني الأولاد بها، لكن في النهاية لا أستطيع الوفاء بعهدي.

فالدروس الخصوصية وفواتير التليفونات وغلاء الأسعار، وغيرها من الأعباء، كل ذلك يجعل الفقر ضيفا مقيما في حافظة النقود، وبالكاد نعيش يومنا أولا بأول.

المسألة ليست إجازة عائلية أو غير عائلية، بل مسألة قدرة مادية، لأن الأغنياء استولوا على الشواطئ وحولوها إلى منتجعات خاصة، ولم يعد أمامنا سوى نهر النيل، نتسكع على شاطئه مساء، ونحاول أن نصنع السعادة بكيسين من الترمس، أو ثمرتين من الذرة المشوي، وقليل من المزاح العفوي الجميل».

أستاذة الاجتماع الدكتورة سامية الساعاتي، تلتقط خيط الأسى في كلمات طارق، وتقول: «في مجتمع تراجعت فيه الروح الجماعية وتفشت النزعة الفردية، وانقلب فيه سلم القيم رأسا على عقب، من الطبيعي أن يفقد مفهوم الإجازة طابعه العائلي الدافئ الحميم.

كما أن السؤال لم يعد يتعلق بجوهر الإجازة نفسها، بل بشكلها، ولونها، ومكانها. لذلك انقسمت الأسرة حيالها، وأصبحت أشبه بحلبة صراع خفي بين الأبناء والآباء، فالأبناء ينظرون لأفكار الآباء باعتبارها (دقة قديمة) ومن مخلفات الماضي، على العكس من تطلعاتهم وطموحاتهم التي يرون أنها تساير روح العصر، والشكل الجديد للحياة».

هذا الانقسام والتشتت - بحسب الساعاتي - محصلة لحركة المجتمع، انعكس بدوره على الأسرة ومنظومة سلوكياتها، فافتقدت بالتالي ثقافة الإجازة، وبأنها ضرورة إنسانية لالتقاط الأنفاس، وشحذ الجهد والطاقة، وليست مجرد ترف اجتماعي، للتفاخر والتباهي بين إجازة في منتجع خمس نجوم، وبين أخرى على شاطئ في مصيف شعبي.

والمفارقة أن الثانية (الشعبية) لو تمت في إطار عائلي حميم قد تكون أكثر بهجة وسعادة من الأولى».

وتذكر الساعاتي أنه في الماضي القريب كان لدى الكثير من الأسر صندوق صغير، أو «حصالة» يدخر فيه كل أفراد الأسرة قروشا قليلة من مصروفهم الشخصي للإجازة الصيفية.

هذا الشكل هو إحدى مفردات ثقافة الإجازة، والوعي بها كاحتياج إنساني، كما أنه كان ييسر كثيرا من كلفتها على الأب، أو رب الأسرة.

وتخلص أستاذة علم الاجتماع إلى أن تراجع مفهوم التكافل والتكاثف الاجتماعي بين شتى فئات المجتمع لعب دورا رئيسيا في ضرب مفهوم التعاضد، الذي تمثل الأسرة نواته الأساسية، وفي المقابل يتم التكريس للفردية والأنانية على حساب المصلحة العامة.