حبوب زيت السمك .. غير مفيدة أثناء الحمل

تضارب الأبحاث العلمية يربك الخبراء .. والضحايا دائما من المرضى
تضارب الأبحاث العلمية يربك الخبراء .. والضحايا دائما من المرضى

لا تسلم الأجواء العلمية من بعض الأحداث التي قد تمر بشكل عابر أمام أعين الكثيرين، إلا أنها أمام العين المتخصصة تمثل ما يشبه وخزة الإبرة لخراج مليء بالقيح، وخاصة أن الأبحاث والدراسات العلمية تعد مصدر مصداقية لكثير من الأطباء والعلماء، بل أيضا لدى بعض محبي الاطلاع من المثقفين والقراء غير المتخصصين.


لذلك فإن تضارب الأبحاث العلمية ورميها بعضها بعضا باتهامات خطيرة كالتربح أو تعمد الفساد في الاستدلال يعد أمرا مؤسفا، كثيرا ما تزكم رائحته الأنوف.

حبوب زيت السمك
جدل من هذا النوع شهدته أخيرا الساحة البحثية، على خلفية الدراسة التي نشرتها «دورية الرابطة الطبية الأميركية» (JAMA) في عددها الصادر بتاريخ 20 من أكتوبر الحالي، التي شككت في وجود دور حقيقي لاستخدام مكملات الغذاء (الحبوب) المحتوية على زيوت الأسماك أثناء الحمل.

إلى هنا والحدث يعد في طور الأمور الطبيعية، وخاصة أن الخلاف العلمي هو أحد مناهج وآليات البحث. لكن الدراسة الأسترالية شككت في نتائج عدة دراسات أوروبية وأميركية سابقة، تؤازرها جهات ذات طابع دولي، تؤيد ضرورة تناول المكملات الغذائية المحتوية على الأحماض الدهنية غير المشبعة طويلة السلسلة، المعروفة اختصارا بـ«LCPUFA» أو زيت السمك، نظرا لما لها من فوائد خاصة بالأم من حيث تقليل فرص الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، وفوائد خاصة بالطفل حديث الولادة من حيث زيادة معدل الوعي الإدراكي الخاص به مستقبلا.

واعتمدت الدراسة التي أشرفت عليها البروفسورة ماريا ماكريديس، أستاذة علوم التغذية بجامعة أديلايد الأسترالية نائبة مدير مؤسسة أبحاث صحة الأم والطفل، على عدة حيثيات فيما توصلت إليه، من أبرزها لجوء الدراسات السابقة إلى وسائل إحصائية غير وافية في تحديد النتائج، حيث اقتصرت على عدد محدود من المتطوعات، إضافة إلى افتقارها للبحث عن وجود أي أثار جانبية محتملة لاستخدام زيوت الأسماك أثناء فترة الحمل.

ولم تكتف الدراسة التي دامت نحو ثلاث سنوات بذلك، بل قامت بإجراء مقارنة بين مجموعتين عشوائيتين من النساء في فترة النصف الثاني من الحمل، وتم متابعة نحو 2300 سيدة في خمسة مستشفيات للولادة، حيث سمح لإحدى المجموعتين باستعمال المكملات الغذائية من زيوت الأسماك في شهور الحمل الأخيرة، والأخرى لم تستعمله، بل تم إعطاؤهن كبسولات تحتوي على زيوت نباتية، لتفادي التأثير النفسي على الحالة العلاجية.

وحسب ماكريديس، بينت نتائج الدراسة النهائية أن المجموعتين، فيما يتصل بالإصابة باكتئاب ما بعد الولادة أو تحسن الوعي الإدراكي للأطفال حديثي الولادة، لم يكن بينهما اختلاف نوعي من حيث المحصلة. ولمحت الدراسة الأسترالية إلى أن النتائج السابقة قد تكون تأثرت بخطأ إجرائي في طرق البحث، أو بتدخلات من بعض الأطراف، وإن لم تسمها.

اعتراضات شديدة
وإثر نشر الدراسة، بل في يوم نشرها نفسه، علق مجلس التغذية المسؤولة الأميركي Council for Responsible Nutrition CRN عليها في بيان يحاول معارضة ما آلت إليه الدراسة، ومؤكدا على أهمية استخدام زيوت الأسماك في فترة الحمل، وما قبلها وما بعدها.

ونص البيان الصادر عن المجلس على: «إنه من الثابت بالفعل وجود فوائد عدة لاستخدام الـDHA (فصيل من زيوت الأسماك) لصحة وسلامة الحمل، إلا أن مزيدا من الأبحاث ما زالت مطلوبة لتقييم تأثيرها الإيجابي على اكتئاب ما بعد الولادة أو تطور الوظائف الإدراكية للأطفال حديثي الولادة». وأشار إلى أن توصيات المؤسسة الطبية الأميركية (Institute of Medicine)، التي تنصح بتناول ما بين 200 إلى 300 ملليغرام من الـDHA كمكمل غذائي يوميا أثناء فترة الحمل، تتماشى مع تلك المعايير.

وتابع البيان، الذي أعده الدكتور دافي ماكاي الرئيس السابق لـ«CRN»، تفنيد الدراسة الأسترالية من حيث إنها أغفلت قياس نسب الـ«DHA» لدى السيدات في بداية حملهن قبل الخضوع للدراسة، وأن ذلك قد يكون سببا لعدم الخروج بنتائج إيجابية، نظرا لاحتمالية أن السيدات كن يعانين من نقصان نسب هذه المادة مسبقا.

كما لمح ماكاي في البيان إلى أن السيدات اللائي تناولن المكمل الغذائي توقفن عن تعاطيه عقب الولادة مباشرة، مما لا يتماشى مع إمكانية الاعتماد عليه كمقياس لحدوث اكتئاب ما بعد الولادة لفترات طويلة تمتد إلى أكثر من ستة أسابيع، حيث يعود مستوى الـ«DHA» إلى منسوب ما قبل الحمل في خلال أسابيع معدودة.

وأشار البيان كذلك إلى عدم ذكر الدراسة لحالة الأطفال عقب الولادة، وما إذا كانت أمهاتهم تتناولن مكملات زيت السمك، الذي يفرز في لبن الأم، في أثناء فترات الإرضاع من عدمه.

بين التجارة والطب
إلى هنا قد يبدو للقارئ أن البيان له مصداقية أكبر، حيث استخدم لغة علمية رصينة في تفنيد الاتهامات الموجهة إلى الدراسات السابقة.. ولكن الأمر المثير حقا للاهتمام هو أن CRN كما تُعرِّف نفسها، حتى في البيان ذاته، هي «الاتحاد الرائد في تجارة مصنعات المكملات الغذائيةthe leading trade association for the dietary supplement industry».. كما تعد أحد أكبر ممولي الأبحاث المتعلقة بالمكملات الغذائية في كثير من دول العالم، مما يجعل من «CRN» بمثابة الخصم والحكم في آن واحد.

ويبدو أن لجوء مؤسسة «CRN» في بيانها إلى الاستشهاد بتوصيات المؤسسة الطبية الأميركية، يعتبر من قبل المستجير بالرمضاء من النار.. إذ إن تلك المؤسسات ذات الطابع الدولي الحيادي لم تعد نائية بثوبها عن الدنس أو إثارة الشك في نفوس الخبراء. وخاصة بعد ما أثارته الاتهامات الموجهة إلى منظمة الصحة العالمية في العام المنصرم من شبهة تواطؤ أو إهمال، أو سوء تقدير على أهون الفروض، فيما يتعلق بتضخيم الصورة الوبائية لمرض إنفلونزا H1N1 (الخنازير) عن عمد أو خطأ، وما تبع ذلك «الخطأ» من ذعر عالمي، إضافة إلى مليارات الدولارات التي جمعتها شركات متخصصة لإنتاج اللقاحات في خزائنها.

وإذا كنا لسنا بصدد الحكم الأخلاقي على تلك المنشآت، فذلك أمر متروك لرجال القانون، إلا أن ذلك التضارب الصارخ في الأبحاث العلمية دونما ضابط أو رابط يصيب الخبراء والمتخصصين من أطباء وعلماء بارتباك وحيرة إزاء وصف بعض العقاقير من عدمه، كما يفقدهم شعور الأمان فيما قد يصل إليهم من أبحاث، ويجعل التفرقة بين الغث والثمين منها مسألة مرهقة بحق كمن يلقي بشباكه في مستنقع موحل .. فما بالنا بحال المرضى البسطاء الذين منحوا كل ثقتهم إلى مجموعة من البشر ظنوا أنها تعمل لصالحهم وتحكمهم ضمائر متيقظة، ولكن قلة من هؤلاء أصبحوا غير جديرين بتلك الثقة، فتسببوا في إثارة الريب في نفوس الجميع.

وعليه، فإن الإلحاح العالمي يتزايد يوما بعد يوم، من أجل إيجاد آليات بحثية موحدة، تخضع لجهات رقابية محايدة ذات مصداقية وصرامة علمية، بما لا يدع مجالا للشك في حدوث أي تلاعب، إضافة إلى مطالب دولية بوضع ضوابط وقوانين حازمة ورادعة لكل من تسول له نفسه الاتجار في حياة أو نفسية البشر، سواء بدواء غير مناسب أو لا فاعلية حقيقية له.