عارضات الأزياء يزدادن نحولا.. فمن المسؤول؟

بعد أن اعتقد المصممون أنه أصبح بإمكانهم أن يتنفسوا الصعداء، وأن الجدل حول مقاس صفر والعارضات الأنوركسيات، كان زوبعة في فنجان أخذت وقتها وذهبت من دون رجعة. فتح الملف مرة أخرى، ليشعل فتيل القلق والحنق في أوساطهم.


فمع قرب بدء دورة عروض الموضة في العواصم العالمية المقررة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، حركت الجهات المناهضة للظاهرة الأمر، لتعلن لندن اتخاذها خطوة إيجابية تمنع فيها الفتيات دون سن الـ 16 من الاشتراك في أي من عروض الموسم المقبل.

ورغم عدم إعلانها منع عارضات بقياس صفر من المشاركة، واقتصار ردها على أنها ستحرص على تقديم المشورة والتوعية التغذية، مع تأمين وجبات طعام صحية لهن خلال تأدية عملهن خلف الكواليس، إلا أن الموضوع أصبح مادة دسمة لوسائل الإعلام، الأمر غير المبشر بالخير بالنسبة لهم.

فمما لا شك فيه أن عودة الملف إلى واجهة الضوء، يعتبر كابوسا يؤرق أغلبية المصممين، لا لأنه يلقي باللوم عليهم في ظاهرة انتشار مرض النحافة المفرطة، بل لأنه يسرق الضوء منهم.

فوسائل الإعلام تركز على عظام العارضات النافرة أكثر مما تركز على إبداعاتهم، مما يجعل كل ما يبذلونه من جهد، وما يتكبدونه من مصاريف، حيث يكلف تنظيم عرض واحد حوالي 70 ألف جنيه استرليني تقريبا، عبثيا.

في العام الماضي، فقد العديد منهم أعصابهم من الأسئلة التي كانت تطرح عليهم بعد انتهاء عروضهم، لأنها لم تكن تهتم على الإطلاق بما قدموه، بل بمن قدمنه، الأمر الذي قد يكون محبطا لأي أحد، فما البال إذا تعلق الأمر بأشخاص يتميزون بالنرجسية ويعيشون على شهقات ونظرات الإعجاب.

في ميلانو، مثلا، رفض مصمم دار "بيربيري" كريستوفر بايلي، ان يكمل حوارا صحافيا عندما سئل حول هذا الموضوع قائلا:
"أريد أن أتكلم عن تصميماتي وليس لدي وقت للخوض في نقاشات جانبية"، كذلك الأمر بالنسبة للأميركي المقيم بلندن، بين دي ليسي وغيرهما.

دوناتيلا فيرساتشي، من جهتها، كانت أكثر صراحة وأشارت إلى رفضها استعمال العارضات النحيلات إلى حد المرض مفضلة عليهن ذوات المقاييس الأنثوية "لأن هذه هي فلسفة دار فيرساتشي منذ البداية. فنحن نتعامل مع شابات ناضجات وليس مع فتيات صغيرات، لذلك نحرص على الاستعانة بعارضات أمهات، مثل كارولين مورفي وكايت موس".

وفيما يرى أغلبية العاملين في صناعة الموضة بأن قرار لندن يكفي، إلا أن المتابعين من خارج الوسط، يرون أن هذه الخطوة غير مجدية، لأنه إذا كانت العارضة تعاني من اضطرابات في التغذية، الأنوركسيا أو البوليميا، فإن دروسا في التوعية الغذائية وحدها لن تنفع وستكون كمن يصب الماء في الرمل، لأن جذور المشكلة أعمق من نوع الغذاء وكميته.

وهذا ما عبر عنه مصمم دار "شانيل" كارل لاغرفيلد في العام الماضي بقوله:
"أعتقد انه عندما تقع أي فتاة ضحية للأنوركسيا، فالسبب يعود إلى مشكلات دفينة تعاني منها لا علاقة لها بالموضة. فكثيرا ما يقع خلط بين المشاكل الاجتماعية والصحية مثل البوليميا والأنوركسيا، وبين أمور الموضة".

والحقيقة انه شتان بين الصورة الساحرة التي رسمتها غالبيتنا عن عالم الموضة والأزياء في الماضي، والصورة الحالية. فهذه الأخيرة أصابها شرخ كبير بسبب النحافة الزائدة وما يترتب عنها من مشكلات نفسية وصحية أودت بحياة عارضات في عمر الزهور، نذكر منهن ليزيل راموس، التي لقيت حتفها عن عمر لا يتعدى الـ 22 سنة بعد محاولتها تخفيف وزنها بسرعة باتباع ريجيم يعتمد على تناول أوراق الخس والماء، مما عرضها لسكتة قلبية.

على العكس من هذه الصورة، هناك صورة عارضات من العصر الذهبي. عارضات رشيقات مثل سيندي كروفور، كلوديا شيفر، ناعومي كامبل، ليندا إيفانجليستا، كارين مولدر، وكايت موس، ما زلن يثرن اهتمامنا حتى بعد بلوغهن سن النضج.

صحيح أنهن كن يتمتعن بمقاييس نحيلة مقارنة بالمرأة العادية، لكنها مع ذلك تبقى مقاييس معقولة صحيا جعلت من مهنة عرض الأزياء عالما مغلفا بالأسرار والغموض والأحلام. عالم تجري وراءه كل الصغيرات بغية تحقيق الشهرة والعيش الرغيد.

وأي واحدة منا عاصرت فترة الثمانينات والسبعينات، لا بد أن تذكر مقاييسهن "السوبر" التي أوحت للراحل جياني فيرساتشي تشبيههن بالبجع، بل وكان أول من أرسلهن مجتمعات في أحد عروضه بأزياء بيضاء ليجسد هذه الصورة التي تخيلها وانطبعت في أذهاننا منذ ذلك العهد. جياني فيرساتشي، الذي تحتفل أوساط الموضة بمرور عشر سنوات على مصرعه هذه الأيام، كان أيضا له الفضل في منحهن لقب العارضات السوبر ليصبحن في مقام النجمات.

فأغلفة المجلات البراقة لم تكن تخلو من صورة إحداهن في كل شهر، كذلك كن مادة دسمة للبابارتزي تترصدهن كاميراتهم في جزر الكاريبي أو في رحلة على يخت أحد المصممين، كما تلهث وراءهن شركات التجميل لتمثيلها وبيع منتجاتها. كان هذا قبل أن تذهب النجومية برؤوسهن، وينقلب السحر على الساحر.

ففي التسعينات، لم تكن الأوضاع الاقتصادية جيدة أو مواتية لكثرة مطالبهن ودلالهن الزائد، الذي لخصته مقولة ليندا إيفانجليستا الشهيرة "لن اقبل أن أغادر غرفة نومي لأقل من 10 آلاف دولار"، الأمر الذي وضع المصممين في مأزق، شعروا إثره بأنهم صنعوا بأيديهم "فرانكشتاينات" صغيرة، وأصبح الحل الوحيد أمامهم اتباع سياسة تقليم الأظافر بالبحث عن بدائل.

ومن هنا بدأ الإقبال على عارضات شرق أوروبا، اللواتي كان حضورهن نقمة على العارضات الغربيات ونعمة على المصممين. فهن ارخص من جهة، وبحاجة لنيل الرضا، من جهة ثانية، بمعنى أنهن اكثر استعدادا لتلبية كل ما يطلبه المصممون، بما في ذلك تخفيف أوزانهن، هذا عدا أنهن نحيلات بطبيعتهن. المشكلة أن طلبات التخلص من الكيلوغرامات زاد عن حده، وبدل عارضات بمقاس 6، بات المصممون يطلبون مقاسات على شكل هياكل عظمية.

فهم يرون انه كلما كانت الأجسام مجرد شماعات متحركة، بدت الأزياء أجمل، لهذا تمادوا إلى حد استعمال فتيات في سن المراهقة لم تنضج أجسادهن ليقمن بالمهمة. وهنا يكمن الخطر، فهؤلاء الصغيرات، تكون غالبيتهن غير مستعدات لدخول هذا العالم وما يتضمنه من مغريات ومنافسة وطموح محموم وغيرها من المشاعر، كما لا يتقبلن أن تنحسر عنهن الأضواء بعد أن يتذوقنها، لذلك يبذلن كل جهدهن للحفاظ على مقاييس صبيانية على أمل ان لا يستبدلن بمن هن اصغر.

العارضة أنجيلا ليندفال كانت أفضل من شرح هذا الوضع بقولها انه يمكن النظر إلى الجدلية الحالية من رؤية بسيطة وهي أن العارضة مثلها مثل الرياضي، أو بصورة أدق مثل الملاكم، الذي لا يسمح له ان يتبارى إذا لم يتمتع بوزن معين.

من دون هذا الوزن الدقيق لا يصل إلى الحلبة، كذلك الأمر بالنسبة للعارضة، التي تشعر أنها ستخسر الكثير من عقود العمل في ما لو زاد وزنها، خصوصا ان هناك كثيرات مستعدات أن يجوعن أنفسهن لأخذ مكانها.

لكن رغم أن وسائل الإعلام والجهات الصحية تلقي باللوم على المصممين لاستعمالهم عارضات في سن يسهل عليهم فيه استغلالهن والتأثير فيهن، إلا انه من الخطأ إلقاء المسؤولية كاملة عليهم. فهناك دور الأسرة من جهة، ودور النجمات من جهة ثانية، اللواتي أصبحن أكثر تأثيرا في أسلوب حياتنا في العقد الأخير بعد انحسار النجومية عن العارضات السوبر.

فقد سحبن السجاد من تحت أرجلهن، بدءا من استيلائهن على عقود شركات التجميل إلى تمثيلهن بيوت الأزياء في الحملات الدعائية، بل وأصبحن ينافسن حتى المصممين في مجال تصميم الأزياء.

وعندما تجتمع النجومية مع التسويق وقوة البريق، فإنه من الصعب التفوق على الخلطة، ومن هنا يأتي تأثيرهن على صغيرات السن، بوجه خاص، والمرأة التي يسهل التأثير فيها بوجه عام. في بداية السنة، ربحت النجمة كيرا نايتلي قضية رفعتها على صحيفة نشرت صورة لها تبدو فيها نحيلة واتهمتها بالتأثير في الفتيات إلى حد الموت.

قد يكون الاتهام قويا وغير مبرر، لكن دور النجمات عموما في نشر ثقافة النحافة واضح ولا يمكن إنكاره، بدليل الصور التي رأيناها أخيرا لكل من مادونا، أنجلينا جولي، وكايت بلانشيت وغيرهن.

المثير للاستغراب ان صورهن النحيلة لا ترقى لصورهن قبل تخلصهن من الكيلوغرامات، التي لم تكن زائدة أبدا، حيث يبدون فيها مريضات، ومع ذلك، فإنها تبيع وتثير حماس العديدات منا للاقتداء بهن.

قرار لندن بتوعية العارضات ومنع الفتيات تحت سن 16 سنة من المشاركة، خطوة بسيطة، حسب رأي وسائل الإعلام، التي يبدو وكأنها تبنت القضية، وبالنسبة للمعلنين الذين يتخوفون من التأثير الإعلامي وقوته، الأمر الذي يضع لندن في مأزق كبير لأنها تحتاج إلى الدعم المادي، ودوامة أكبر لأنها تعرف أن الحل الوحيد للتغلب على المشكلة هي تغير ثقافة الجمال في العالم ككل.

صحيح أن مدريد وميلانو منعتا عارضات بالغات النحافة من المشاركة في عروضهما، ووعدت نيويورك بالانتباه وعدم التعامل مع أية عارضة يشك في مرضها، إلا أن العارضات اللواتي يتحكمن في منصات العروض العالمية، هن النحيفات بشكل يجعل عارضات الثمانينات والتسعينات "السوبر" يبدون بدينات.