الخبز .. تاريخ ساعد على التحضر وأخاف الحكام من الثورات

عالم اصناعة الخبز والطحين تطور بشكل لم يسبق له مثيل، وأصبحت الآلات والماكينات التي تنتج طينه وتنتجه تعمل بتقنية «الديجتال» المتطورة، وصار بالإمكان صناعة الخبز في المنزل بماكينة صغيرة حجم طنجرة الطبخ،
عالم اصناعة الخبز والطحين تطور بشكل لم يسبق له مثيل، وأصبحت الآلات والماكينات التي تنتج طينه وتنتجه تعمل بتقنية «الديجتال» المتطورة، وصار بالإمكان صناعة الخبز في المنزل بماكينة صغيرة حجم طنجرة الطبخ،

الخبز واحد من أهم العناصر الأساسية والغذائية لدى معظم الشعوب منذ قرون طويلة، وفيما يعتبر أول الأطعمة، تعتبر حرفة الخباز من أول الحرف التي عرفتها البشرية.


وبالإمكان رؤية أرغفة الخبز القديمة التي كان ينتجها ويصنعها الفراعنة قبل 5000 سنة شاهدة للعيان في المتحف البريطاني حتى الآن إلى جانب حبوب القمح التي كانت تزرع، تحصد وتجفف على ضفاف النيل. ويقول العلماء إن الحبوب أو النباتات الحبية (من الفصيلة النجيلية) وخصوصا الشعير والقمح والشوفان والذرة من أنواع الأعشاب البرية، لكن أصل عشبة القمح حتى الآن لا يزال مجهولا.

وكان المصريون في القرن الثاني عشر قبل الميلاد كانوا يشترون الخبز في الأسواق الشعبية وكانوا يطلقون عليه اسم «تا».

لكن لا يزال هناك جدل كبير حول إذا ما استخدم الفراعنة الخميرة أام لا من قبل المختصين، ومع هذا فالخبز أقدم من الفراعنة بكثير، إذ عثر العلماء على آثار القمح في كل التجمعات أو المستوطنات البشرية التي كانت موجودة قبل 8000 عام، ولذا يعتبر جزءا لا يتجزأ من التطور الزراعي والمدني والبشري بشكل عام.

وعلى ما أذكر فإن العلماء قبل سنوات، عثروا على حبوب القمح القديمة جدا والتي يعود تاريخها إلى حوالي 10000 سنة من الآن في مناطق أريحا وسورية ولبنان.

ويقال إن الخبز المسطح المصنوع من الشعير عرف أولا في العراق القديم أي أيام السومريين، وقد ذكر الخبز كثيرا في أدبيات وشرائع اليهود والمسيحيين بعد ذلك بنوعيه المختمر وغير المختمر.

واعتمد الإغريق على الخبز ولا يزالون كما هو الحال مع الرومان والإمبراطورية الرومانية التي اعتبرته جزءا لا يتجزأ من الاستقرار الغذائي، ومن ذلك الوقت يدور الجدل حول الخبز الأبيض والخبز الأسمر وما هو الأفضل من غيره للصحة والجسم.

ولولا القمح والحبوب والقدرة على زراعتهما واستغلالهما وتخزينهما من فصل إلى آخر، لما تمكن البشر من الاستقرار والاستيطان وبالتالي التحضر في قديم الزمان، فقد كان أهل العصر الحجري يصنعون كعكات الخبز الكبيرة بعد طحن الشعير والقمح معا بمطاحن حجرية ثقيلة يعود تاريخ بعضها إلى 7500 سنة، أي قبل أن يقلعوا عن الحياة البرية والشاردة وراء قطعان الماشية وطرائد الصيد.

كل الإشارات في العهد القديم تشير إلى أن المرأة كانت مسؤولة عن الخبز وصناعته في المنزل، وكان الأغنياء والملوك والأمراء يحترمون الخبازين الذين يعملون داخل قصورهم.

ورغم أن اليهود عرفوا الخبز مع الخميرة حتى ينتفخ، فإنهم يحتفلون سنويا بذكرى الخروج من مصر بتناول الخبز غير المختمر إكراما للذين خرجوا من مصر ولم يأكلوا خبزهم مختمرا بسبب العجلة في رحيلهم، ويقال أن الفينيقيون كانوا أفضل الخبازين.

ويقول العلماء إن مدينة بومباي التي دمرها أحد البراكين وغطى بيوتها وأهلها بالطمي البركاني، كانت تعرف قبل الكارثة المخابز الشعبية، أي الأمكنة التي كان يستخدمها الناس إما لخبز عجينتهم أو شراء الخبز. وعرفت عاصمة الإمبراطورية روما إضافة إلى المخابز الشعبية والخاصة، كليات تعليم مهنة الخباز، وكان الخبازون محترمين لدرجة أنهم كانوا يعتبرون من سكان المدينة الأحرار ولا علاقة لهم بعالم العبيد وتجارته، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الخبازة حرفة بحد ذاتها مستقلة ومهمة جدا.

وكانت الكليات أو السلطات في روما تمنعهم من اتخاذ مهنة أخرى أو الخروج عن المهنة وكانوا يشجعون وراثة الأبناء لها ومتابعتها لفترة طويلة، ومع هذا كانوا أيضا محرومين من الاختلاط بالناس العاديين وبالتالي حضور الاحتفالات والعروض الشعبية في الساحات العامة والكولوسيوم مخافة التقاطهم لبعض الأمراض أو الفيروسات.

وكما هو الحال مع الإغريق وأهل اليونان قديما أحب الرومان الخبز الأبيض، إذ كان اللون أيام المؤرخ بليني عام 70 دلالة على نوعية الخبز، ويقول بليني في أحد كتبه: «قمح قبرص ينتج خبزا داكن اللون، ولهذا السبب يتم خلطه بقمح الإسكندرية الأبيض».

ويشير بليني في كتاباته إلا أن أهل الجزيرة الإيبيرية وبعض المناطق الأوروبية كانت تستخدم الجعة أو النبيذ أو عصير العنب (حسب المنطقة) كبديل عن الخميرة وفي حال تعذرها، وكان البعض أحيانا يبقي على قطعة عجينة مخمرة صغيرة للعجنة المقبلة.

وكان أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، يعتبر الخبز أحد العناصر الأساسية للتمتع بشيخوخة مريحة وحياة طويلة، رغم أن بعض الخبازين آنذاك كانوا يستخدمون مياه البحر المالحة لتوفير الملح وتكاليفه.

الرومان بشكل عام عرفوا الكثير من أنواع الخبز منها الخبز المصنوع بالمحار، أما الخبز المصنوع بالبيض والزبدة والحليب فكان حكرا على الأغنياء والموسورين، وقد ترك الرياضي والفيلسوف اليوناني ـ المصري أثينيوس في القرن الثالث، الكثير من المعلومات عن عالم الخبز والمخابز وسبل صناعته ومواده وغيرها من التفاصيل التي كانت مألوفة في تلك الفترة.

ويقول أثينيوس في أحد كتبه، إن أفضل الخبازين كانوا الفينيقيين وأهل بلدة ليديا في غرب تركيا، ويفصل في حديثه عن الخبز المصنوع بالخميرة أو المختمر وغير المختمر وأنواع الطحين والحبوب بالإضافة إلى أنواع الخبز المصنوعة من الجريش أو البرغل المعروفة بـ«الغوت» وحبة الدخن وما يعرف بحنطة الـ«ري»، بالإضافة إلى الخبز المصنوع من البلوط، والخبز المصنوع بالجبن والخبز المحمص والحلويات البلدية الصغيرة.

ومع هذا كان الخبز الأبيض المصنوع من دقيق القمح أهم الأنواع وأكثرها شعبية، وفي اليونان قديما وقبل الرومان كانت المدن تتنافس فيما بينها على نوعية الخبز ومن يصنع أفضل الأنواع، وبالطبع كانت أثينا العاصمة تحوز أعلى المراتب، وعرفت ولا تزال حتى الآن بخبازها الشهير «ثييريون» ( Thearion).

وقد كتب لينكيوس الذي كان يروج لخبز جزيرة رودس، عن أهل أثينا قائلا: «يتكلمون كثيرا عن خبزهم، الذي يمكن شراؤه من الأسواق، إلا أن أهل رودس يضعون على طاولة الطعام أفخر الأنواع .. وهناك نوع يطلق عليه اسم «هيرث لوف» (hearth loaf) (رغيف الموقد) مصنوع مع أشياء حلوة وهو خفيف جدا، وهو لذيذ جدا ومصنوع بتناغم أفضل صناعة لدرجة أنه يشعر الرجل المشبع بالجوع».

أما الكاتب يوبيولوس، فقد كان يتغنى بخبز جزيرة قبرص، ويقول إنه يجذب الجائعين في الشوارع.

وبين بريطانيا والخبز علاقة قديمة أيضا، إذ دائما ارتبط الخبز بالمخاوف السياسية والمخاوف من جوع العامة والفلاحين وعدم تمكنهم من شراء الخبز وبالتالي الثورة، ولهذا كانت هناك قوانين كثيرة تشرع مهنة الخباز وتفرض أسعارا محددة لا يمكن تعديها على الخبز منذ القرن الثالث عشر أيام الملك جون.

ولهذا أيضا، وقبل ذلك، جاء ذكر الخبز في وثيقة الـ«ماغنا كارتا» (Magna Carta) المعروفة والتاريخية (عام 1215)، التي أسست للعلاقة القانونية بين الحاكم والمحكوم أو بكلام آخر بين الملك ورعاياه وبكلام أدق كانت أول وثيقة عن الحقوق المدنية.

ولطالما راقبت السلطات البريطانية مثل ذلك الوقت أوزان الخبز وأنواع الطحين وأسعار المواد وراقبت كل شاردة وواردة في هذا القطاع الهام، وكانت مداخيل الخبازين رغم الاحترام الكبير لهم، أقل من غيرها لأن مهنتهم دائمة وثابتة.

وهناك الكثير من القصص في التراث الشعبي البريطاني في تلك القرون عن محاولات الخبازين الغش وحالات إلقاء القبض على البعض.

وظل البريطانيون كالكثير من الشعوب يستخدمون المطاحن التي تعمل على الطاقة المائية أو الهوائية (الريح) حتى الثورة الصناعية واكتشاف المحرك البخاري، إذ تحولت معظم المطاحن الخاصة بالطحين من المحركات القديمة إلى المحركات التي تعمل على البخار نهاية عام 1880، مما أحدث ثورة أخرى في عالم الأكل والناس، لم يسبق لها مثيل إذ أن استخدام المطاحن الحديثة (صممها مهندس سويسري وتعمل بمداحل الصلب، أدى إلى تراجع كبير في تكلفة إنتاج الخبز وبالتالي تراجع أسعاره وتوفيره لجميع طبقات المجتمع كما هو الحال الآن.

وأيام الحربين العالميتين الأولى والثانية، وضعت السلطات البريطانية شروطا لا تحصى ولا تعد على استخدام الخبز والطحين وقننته ورشدته، لدرجة أنها كانت تقرر حجم وشكل الرغيف وما في داخله.

وشهد عام 1912 ولادة ماكينة تحميص الخبز الأبيض الإفرنجي (التوست) وقد صممها أوتو رويدار وكانت مخابز ميسوري في الولايات المتحدة آنذاك أول المخابز التي تستخدمها في العالم.

مهما يكن فإن عالم الخبز وصناعة الخبز والطحين قد تطور بشكل لم يسبق له مثيل، وأصبحت الآلات والماكينات التي تنتج طينه وتنتجه تعمل بتقنية «الديجتال» المتطورة، وصار بالإمكان صناعة الخبز في المنزل بماكينة صغيرة حجم طنجرة الطبخ، وأصبح هناك الكثير من أنواع الخبز المعروفة والمشهورة والمتوفرة في الأسواق خصوصا الأسواق الأوروبية من الخبز الفرنسي أو ما يعرف بـ«غرنش ستيك» الطويل الشكل إلى الخبز اليوناني والتركي المغمور بالسمسم وما يعرف بـ«البيتا» والخبز العربي اللبناني النحيل والمسطح والخفيف، وهناك أنواع كثيرة مشهورة في سويسرا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال.

ويطلق عليه أهل اليوناني اسم «بصومي»، ويصنعون الكثير من أنواعه المنتفخة والمحمصة السطح، كما يستخدمونه ويستخدمون الطحين في صناعة الكثير من الحلويات والسكامر وغيره.

ولا يزال الكثير من اليونانيين يكنون للخبز مكانة خاصة بسبب الحروب التي شهدتها البلاد والحرب الأهلية بعد الحرب العالمية الثانية وصعوبة الحصول على الخبز وخصوصا في المناطق النائية والبعيدة.

بالنسبة للناس الخبز يعني أكثر من مادة غذائية رغم أنها كذلك، ولها معاني ودلائل وإشارات دينية وثقافية وسياسية وحضارية معينة منذ زمن طويل، مع أن أهمية الخبز الغذائية أيضا تختلف من بلد إلى آخر ومن شعب إلى شعب، فمثلا العالم الثالث والعالم العربي من ضمنه يستخدم الخبز بكثرة ويصعب الاستقرار السياسي من دون ضبط أسعاره، ولا تزال ذكريات ثورة الخبز في القاهرة أيام حكم الرئيس أنور السادات في السبعينات ماثلة للعيان.

ويعتبر الخبز في البلدان الفقيرة ومنها العربية المادة الأولى للغذاء أي قبل أي شيء آخر، بينما بعض الشعوب الأوروبية لا تستخدمه كثيرا وإن استخدمته فإنها تستخدمه بكميات قليلة وخفيفة وتعتمد بعض الشعوب الآسيوية على الأرز كمادة أساسية وليس الخبز.

وفيما يستخدم اليهود كلمة الخبز للدلالة على الضرورة أحيانا مثل «لخيم أفودا» (خبز، عمل)، استخدمها سكان شرق لندن في الخمسينات لتعني المال وهي كذلك في الكثير من مناطق العالم حاليا، ومع هذا تظل مرتبطة بالأساسيات والضروريات في الحياة.

ويستخدم الإنكليز أيضا تعبير «برد وينار» (bread ـ winner) للدلالة على النواحي الاقتصادية والربح والكسب، وكما تؤكد الوثائق التاريخية فإن لينين أيام الثورة البلشفية في روسيا بداية القرن الماضي وعد الروس بـ«السلام والأرض والخبز».

وفي الوقت الذي تعتبر فيه بعض الشعوب الخبز طاردا للأشباح والجن، لا تزال الشعوب السلافية تقدم الخبز والملح كعربون ترحيب بالزائر، وفي الهند، فإن أساسيات وضروريات الحياة تعني الخبز والملابس والمنزل.

وفي إطار المكونات الطبيعية، تشير المعلومات المتوفرة، أن الخبز الأبيض يحتوي على الكثير من المواد الهامة منها النشويات (51 غرام) والدهون (3 غرام) والألياف (2.4 غرام) والبروتين (8 غرام) فضلا عن فيتامين «بي 1» أو ثيامين (0.5 ملغم ـ 38%) وفيتامين «بي 2» أو ريبوفلافين (0.3 ملغم ـ 20%) وفيتامين «بي 3» أو نياسين (4 ملغم ـ 27%) والصوديوم (681 ملغم ـ 45%).